ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا عطف على جملة الله الذي رفع السماوات فبين الجملتين شبه التضاد اشتملت الأولى على ذكر العوالم العلوية وأحوالها ، واشتملت الثانية على ذكر العوالم السفلية . والمعنى : أنه خالق جميع العوالم وأعراضها .
والمد : البسط والسعة ، ومنه : ظل مديد . ومنه مد البحر وجزره ، ومد يده إذا بسطها . والمعنى : خلق الأرض ممدودة متسعة للسير والزرع لأنه لو خلقها أسنمة من حجر أو جبالا شاهقة متلاصقة لما تيسر للأحياء التي عليها الانتفاع بها والسير من مكان إلى آخر في طلب الرزق وغيره . وليس المراد أنها كانت غير ممدودة فمدها بل هو كقوله الله الذي رفع السماوات . فهذه خلقة دالة على القدرة وعلى اللطف بعباده فهي آية ومنة .
والرواسي : جمع راس . وهو الثابت المستقر ، أي جبالا رواسي . وقد حذف موصوفه لظهوره فهو كقوله وله الجواري ، أي السفن الجارية . وسيأتي في قوله وألقى في الأرض رواسي في سورة النحل بأبسط مما هنا .
وجيء في جمع راس بوزن فواعل ; لأن الموصوف به غير عاقل ، ووزن فواعل يطرد فيما مفرده صفة لغير عاقل مثل : صاهل وبازل .
لما في خلقها من العظمة المشاهدة بخلاف خلقة المعادن والتراب فهي خفية ، كما قال تعالى والاستدلال بخلق الجبال على عظيم القدرة وإلى الجبال كيف نصبت .
[ ص: 83 ] والأنهار : جمع نهر ، وهو الوادي العظيم . وتقدم في سورة البقرة إن الله مبتليكم بنهر . وقوله ومن كل الثمرات عطف على ( أنهارا ) فهو معمول لـ جعل فيها رواسي ، ودخول ( من ) على ( كل ) جرى على الاستعمال العربي في ذكر أجناس غير العاقل كقوله وبث فيها من كل دابة ، و ( من ) هذه تحمل على التبعيض ; لأن حقائق الأجناس لا تنحصر والموجود منها ما هو إلا بعض جزئيات الماهية ; لأن منها جزئيات انقضت ومنها جزئيات ستوجد .
والمراد بـ ( الثمرات ) هي وأشجارها . وإنما ذكرت الثمرات لأنها موقع منة مع العبرة كقوله فأخرجنا به من كل الثمرات . فينبغي الوقف على ومن كل الثمرات ، وبذلك انتهى تعداد المخلوقات المتصلة بالأرض . وهذا أحسن تفسيرا . ويعضده نظيره في قوله تعالى ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون في سورة النحل .
وقيل : إن قوله ومن كل الثمرات ابتداء كلام .
وتتعلق من كل الثمرات بـ جعل فيها زوجين اثنين ، وبهذا فسر أكثر المفسرين . ويبعده أنه لا نكتة في تقديم الجار والمجرور على عامله على ذلك التقدير ; لأن جميع المذكور محل اهتمام فلا خصوصية للثمرات هنا ، ولأن الثمرات لا يتحقق فيها وجود أزواج ولا كون الزوجين اثنين . وأيضا فيه فوات المنة بخلق الحيوان وتناسله مع أن منه معظم نفعهم ومعاشهم . ومما يقرب ذلك قوله تعالى في نحو هذا المعنى ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا ، والمعروف أن الزوجين هما الذكر والأنثى قال تعالى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى .
والظاهر أن جملة جعل فيها زوجين مستأنفة للاهتمام بهذا الجنس من المخلوقات وهو جنس الحيوان المخلوق صنفين ذكرا وأنثى أحدهما زوج [ ص: 84 ] مع الآخر ، وشاع إطلاق الزوج على الذكر والأنثى من الحيوان كما تقدم في قوله تعالى وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة في سورة البقرة ، وقوله وخلق منها زوجها في أول سورة النساء ، وقوله قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ، وأما قوله تعالى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج فذلك إطلاق الزوج على الصنف بناء على شيوع إطلاقه على صنف الذكر وصنف الأنثى فأطلق مجازا على مطلق صنف من غير ما يتصف بالذكورة والأنوثة بعلاقة الإطلاق ، والقرينة قوله ( أنبتنا ) مع عدم التثنية ، كذلك قوله تعالى فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى في سورة طه .
وتنكير زوجين للتنويع ، أي جعل زوجين من كل نوع . ومعنى التثنية في زوجين أن كل فرد من الزوج يطلق عليه زوج كما تقدم في قوله تعالى ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين الآية في سورة الأنعام .
والوصف بقوله ( اثنين ) للتأكد تحقيقا للامتنان .