جملة إني أسكنت من ذريتي مستأنفة لابتداء دعاء آخر ، وافتتحت بالنداء لزيادة التضرع ، وفي كون النداء تأكيدا لنداء سابق ضرب من الربط بين الجمل المفتتحة بالنداء ، ربط المثل بمثله .
وأضيف الرب هنا إلى ضمير الجمع خلافا لسابقيه ; لأن الدعاء الذي افتتح به فيه حظ للداعي ولأبنائه ، ولعل إسماعيل - عليه السلام - حاضر معه حين الدعاء كما تدل له الآية الأخرى [ ص: 241 ] وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم إلى قوله واجعلنا مسلمين لك ، وذلك من معنى الشكر المسؤول هنا .
و ( من ) في قوله من ذريتي بمعنى بعض ، يعني إسماعيل - عليه السلام - ، وهو بعض ذريته ، فكان هذا الدعاء صدر من إبراهيم - عليه السلام - بعد زمان من بناء الكعبة وتقري مكة ، كما دل عليه قوله في دعائه هذا الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ، فذكر إسحاق - عليه السلام - .
والوادي : الأرض بين الجبال ، وهو وادي مكة ، و غير ذي زرع صفة ، أي : بواد لا يصلح للنبت ; لأنه حجارة ، فإن كلمة ( ذو ) تدل على صاحب ما أضيفت إليه وتمكنه منه ، فإذا قيل : ذو مال ، فالمال ثابت له ، وإذا أريد ضد ذلك قيل : غير ذي كذا ، كقوله تعالى قرآنا عربيا غير ذي عوج ، أي : لا يعتريه شيء من العوج ، ولأجل هذا الاستعمال لم يقل بواد لا يزرع أو لا زرع به .
و عند بيتك صفة ثانية لواد أو حال .
والمحرم : الممنع من تناول الأيدي إياه بما يفسده أو يضر أهله بما جعل الله له في نفوس الأمم من التوقير والتعظيم ، وبما شاهدوه من هلكة من يريد فيه بإلحاد بظلم ، وما أصحاب الفيل منهم ببعيد .
وعلق ( ليقيموا ) بـ ( أسكنت ) ، أي : علة الإسكان بذلك الوادي عند ذلك البيت أن لا يشغلهم عن إقامة الصلاة في ذلك البيت شاغل فيكون البيت معمورا أبدا .
وتوسيط النداء للاهتمام بمقدمة الدعاء زيادة في الضراعة ، وتهيأ بذلك أن يفرع عليه الدعاء لهم بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ; لأن همة الصالحين في إقامة الدين .
والأفئدة : جمع فؤاد ، وهو القلب ، والمراد به هنا النفس والعقل .
والمراد : فاجعل أناسا يهوون إليهم ، فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد .
[ ص: 242 ] فلما ذكر أفئدة لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم من الناس ، فـ ( من ) بيانية لا تبعيضية ، إذ لا طائل تحته ، والمعنى : فاجعل أناسا يقصدونهم بحبات قلوبهم .
وتهوي مضارع هوى بفتح الواو : سقط ، وأطلق هنا على الإسراع في المشي استعارة ، كقول امرئ القيس :
كجلمود صخر حطه السيل من عل
ولذلك عدي باللام دون ( على ) .والإسراع : جعل كناية عن المحبة والشوق إلى زيارتهم ، والمقصود من هذا الدعاء تأنيس مكانهم بتردد الزائرين وقضاء حوائجهم منهم ، والتنكير مطلق يحمل على المتعارف في عمران المدن والأسواق بالواردين ، فلذلك لم يقيده في الدعاء بما يدل على الكثرة اكتفاء بما هو معروف .
ومحبة الناس إياهم يحصل معها محبة البلد وتكرير زيارته ، وذلك سبب لاستئناسهم به ورغبتهم في إقامة شعائره ، فيؤول إلى الدعوة إلى الدين .
ورجاء شكرهم داخل في الدعاء ; لأنه جعل تكملة له تعرضا للإجابة وزيادة في الدعاء لهم بأن يكونوا من الشاكرين ، والمقصود : توفر أسباب الانقطاع إلى العبادة وانتفاء ما يحول بينهم وبينها من فتنة الكدح للاكتساب .