الواو في أولم ننهك عطف على كلام لوط - عليه السلام - جار على طريقة العطف على كلام الغير كقوله تعالى قال ومن ذريتي بعد قوله تعالى قال إني جاعلك للناس إماما في سورة البقرة .
والاستفهام إنكاري ، والمعطوف هو الإنكار .
و ( العالمين ) الناس ، وتعدية النهي إلى ذات العالمين على تقدير مضاف دل عليه المقام ، أي : ألم ننهك عن حماية الناس أو عن إجارتهم ، أي أن عليك أن تخلي بيننا وبين عادتنا حتى لا يطمع المارون في حمايتك ، وقد كانوا يقطعون السبيل يتعرضون للمارين على قراهم ، و ( العالمين ) تقدم في الفاتحة ، وأرادوا به هنا أصناف القبائل لقصد التعميم .
وعرض عليهم بناته ظنا أن ذلك يردعهم ويطفئ شبقهم ، ولذلك قال إن كنتم فاعلين .
وقد تقدم في سورة هود معنى عرضه بناته ، وأن قوله ( بناتي ) يجوز أن يراد به بنات صلبه وكن اثنتين أو ثلاثا ، ويجوز أن يراد به بنات القوم كلهم تنزيلا لهم منزلة بناته ; لأن . النبيء كأب لأمته
وجملة لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون معترضة بين أجزاء القصة للعبرة في عدم جدوى الموعظة فيمن يكون في سكرة هواه .
[ ص: 68 ] والمخاطب بها محمد - صلى الله عليه وسلم - من قبل الله تعالى ، وقيل هو من كلام الملائكة بتقدير ( قول ) .
وكلمة لعمرك صيغة قسم ، واللام الداخلة على لفظ ( عمر ) لام القسم .
والعمر بفتح العين وسكون الميم أصله لغة في العمر بضم العين ، فخص المفتوح بصيغة القسم لخفته بالفتح ; لأن القسم كثير الدوران في الكلام ، فهو قسم بحياة المخاطب به ، وهو في الاستعمال إذا دخلت عليه لام القسم رفعوه على الابتداء محذوف الخبر وجوبا ، والتقدير : لعمرك قسمي .
وهو من المواضع التي يحذف فيها الخبر حذفا لازما في استعمال العرب اكتفاء بدلالة اللام على معنى القسم ، وقد يستعملونه بغير اللام فحينئذ يقرنونه باسم الجلالة وينصبونهما ، كقول : عمر بن أبي ربيعة
عمرك الله كيف يلتقيان
فنصب عمر بنزع الخافض وهو باء القسم ونصب اسم الجلالة على أنه مفعول المصدر ، أي بتعميرك الله بمعنى بتعظيمك الله ، أي قولك لله لعمرك تعظيما لله ; لأن القسم باسم أحد تعظيم له ، فاستعمل لفظ القسم كناية عن التعظيم ، كما استعمل لفظ التحية كناية عن التعظيم في كلمات التشهد ( التحيات لله ) أي أقسم عليك بتعظيمك ربك ، هذا ما يظهر لي في توجيه النصب ، وقد خالفت فيه أقوال أهل اللغة بعض مخالفة لأدفع ما عرض لهم من إشكال .والسكرة : ذهاب العقل ، مشتقة من السكر بفتح السين وهو السد والغلق ، وأطلقت هنا على الضلال تشبيها لغلبة دواعي الهوى على دواعي الرشاد بذهاب العقل وغشيته .
و ( يعمهون ) يتحيرون ولا يهتدون ، وقد تقدم عند قوله تعالى ويمدهم في طغيانهم يعمهون في سورة البقرة .
[ ص: 69 ] وجملة فأخذتهم الصيحة مشرقين تفريع على جملة وقضينا إليه ذلك الأمر .
والصيحة : صعقة في الهواء ، وهي صواعق وزلازل وفيها حجارة من سجيل ، وقد مضى بيانها في سورة هود .
وانتصب ( مشرقين ) على الحال من ضمير الغيبة ، وهو اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا في وقت شروق الشمس .
وضميرا عاليها سافلها للمدينة ، وضمير ( عليهم ) عائد إلى ما عادت عليه ضمائر الجمع قبله .
وجملة إن في ذلك لآيات للمتوسمين : تذييل .
والآيات : الأدلة ، أي دلائل على حقائق من الهداية وضدها ، وعلى تعرض المكذبين رسلهم لعقاب شديد .
والإشارة في ذلك إلى جميع ما تضمنته القصة المبدوءة بقوله تعالى ونبئهم عن ضيف إبراهيم . ففيها من الآيات آية نزول الملائكة في بيت إبراهيم عليه السلام كرامة له ، وبشارته بغلام عليم ، وإعلام الله إياه بما سيحل بقوم لوط كرامة لإبراهيم عليهما السلام ، لوطا بالملائكة ، وإنجاء ونصر الله لوط عليه السلام وآله ، وإهلاك قومه وامرأته لمناصرتها إياهم ، وآية عماية أهل الضلالة عن دلائل الإنابة ، وآية غضب الله على المسترسلين في عصيان الرسل .
وتقدم الكلام على لفظ آية عند قوله تعالى والذين كفروا وكذبوا بآياتنا في سورة البقرة ، وقوله وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه في سورة الأنعام .
والمتوسمون أصحاب التوسم وهو التأمل في السمة ، أي العلامة الدالة على المعلم ، والمراد للمتأملين في الأسباب وعواقبها وأولئك هم المؤمنون ، وهو تعريض بالذين لم تردعهم العبر بأنهم دون مرتبة النظر تعريضا بالمشركين [ ص: 70 ] الذين لم يتعظوا; بأن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم التي عرفوا أخبارها ورأوا آثارها .
ولذلك أعقب الجملة بجملة وإنها لبسبيل مقيم ، أي المدينة المذكورة آنفا هي بطريق باق يشاهد كثير منكم آثارها في بلاد فلسطين في طريق تجارتكم إلى الشام وما حولها ، وهذا كقوله وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون .
والمقيم : أصله الشخص المستقر في مكانه غير مرتحل ، وهو هنا مستعار لآثار المدينة الباقية في المكان بتشبيهه بالشخص المقيم .
وجملة إن في ذلك لآية للمؤمنين تذييل ، والإشارة إلى ما تقدم من قوله من القصة مع ما انضم إليها من ، وعبر في التذييل بالمؤمنين للتنبيه على أن المتوسمين هم المؤمنون . التذكير بأن قراهم واضحة فيها آثار الخسف والأمطار بالحجارة المحماة
وجعل ذلك ( آية ) بالإفراد تفننا ;لأن ( آية ) اسم جنس يصدق بالمتعدد ، على أن مجموع ما حصل لهم آية على المقصود من القصة ، وهو عاقبة المكذبين ، وفي مطاوي تلك الآيات آيات ، والذي في درة التنزيل ، أي الفرق بين جمع الآيات في الأول ، وإفراده ثانيا في هذه الآية بأن ما قص من حديث لوط وضيف إبراهيم وما كان من عاقبة أمرهم كل جزء من ذلك في نفسه آية ، فالمشار إليه بذلك هو عدة آيات ، وأما كون قريةلوط ( بسبيل مقيم ) فهو في جملته آية واحدة ، فتأمل .