فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم بالبينات والزبر .
كانت الآيات السابقة جارية على حكاية تكذيب المشركين نبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإنكارهم أنه مرسل من عند الله وأن القرآن وحي الله إليه ، ابتداء من قوله تعالى وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ، ورد مزاعمهم الباطلة بالأدلة القارعة لهم متخللا بما أدمج في أثنائه من معان أخرى تتعلق بذلك ، فعاد هنا إلى إبطال شبهتهم في إنكار نبوءته من أنه بشر لا يليق بأن يكون سفيرا بين الله والناس ، إبطالا بقياس التمثيل بالرسل الأسبقين الذين لا تنكر قريش رسالتهم مثل نوح وإبراهيم - عليهما السلام - ، وهذا ينظر إلى قوله في أول السورة ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده .
وقد غير أسلوب نظم الكلام هنا بتوجيه الخطاب إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان جاريا على أسلوب الغيبة ابتداء من قوله تعالى فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ، وقوله تعالى وقال الذين أشركوا الآية ، تأنيسا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ; لأن فيما مضى من [ ص: 161 ] الكلام آنفا حكاية تكذيبهم إياه تصريحا وتعريضا ، فأقبل الله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب ; لما في هذا الكلام من تنويه منزلته بأنه في منزلة الرسل الأولين - عليهم الصلاة والسلام - .
وفي هذا الخطاب تعريض بالمشركين ، ولذلك التفت إلى خطابهم بقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر .
وصيغة القصر لقلب اعتقاد المشركين وقولهم أبعث الله بشرا رسولا ، فقصر الإرسال على التعلق برجال موصوفين بأنهم يوحى إليهم .
ثم أشهد على المشركين بشواهد الأمم الماضية ، وأقبل عليهم بالخطاب توبيخا لهم ; لأن التوبيخ يناسبه الخطاب ; لكونه أوقع في نفس الموبخ ، فاحتج عليهم بقوله فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون إلخ ، فهذا احتجاج بأهل الأديان السابقين أهل الكتب اليهود والنصارى والصابئة .
والذكر : كتاب الشريعة ، وقد تقدم عند قوله تعالى وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر في أول الحجر .
وفي قوله تعالى إن كنتم لا تعلمون إيماء إلى أنهم يعلمون ذلك ، ولكنهم قصدوا المكابرة والتمويه ; لتضليل الدهماء ، فلذلك جيء في الشرط بحرف ( إن ) التي ترد في الشرط المظنون عدم وجوده .
وجملة فاسألوا أهل الذكر معترضة بين جملة وما أرسلنا وبين قوله تعالى بالبينات والزبر .
والجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الجملة مفرعا على ما قبله ، وقد جعلها في الكشاف معترضة على اعتبار وجوه ذكرها في متعلق قوله تعالى بالبينات .
ونقل عنه في سورة الإنسان عند قوله تعالى إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا أنه لا تقترن الجملة المعترضة بالفاء ، وتردد صاحب الكشاف في صحة ذلك عنه ; لمخالفته كلامه في آية سورة النحل .
[ ص: 162 ] وقوله ( بالبينات ) متعلق بمستقر صفة أو حالا من ( رجالا ) ، وفي تعلقه وجوه أخر ذكرها في الكشاف ، والباء للمصاحبة ، أي مصحوبين بالبينات والزبر ، فالبينات دلائل الصدق من معجزات أو أدلة عقلية ، وقد اجتمع ذلك في القرآن ، وافترق بين الرسل الأولين كما تفرق منه كثير لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - .
والزبر جمع زبور ، وهو مشتق من الزبر ، أي الكتابة ، ففعول بمعنى مفعول ، والزبر الكتب التي كتب فيها ما أوحي إلى الرسل مثل صحف إبراهيم والتوراة وما كتبه الحواريون من الوحي إلى عيسى - عليه السلام - ، وإن لم يكتبه عيسى .
ولعل عطف ( بالزبر ) على ( بالبينات ) عطف تقسيم بقصد التوزيع ، أي بعضهم مصحوب بالبينات وبعضهم بالأمرين ; لأنه قد تجئ رسل بدون كتب ، مثل حنظلة بن صفوان رسول أهل الرس ، وخالد بن سنان رسول عبس ، ولم يذكر الله لنوح - عليه السلام - كتابا .
وقد تجعل الزبر خاصة بالكتب الوجيزة التي ليست فيها شريعة واسعة مثل صحف إبراهيم وزبور داود - عليهما السلام - والإنجيل كما فسروها به في سورة فاطر .