وفي صحيح في تفسير سورة الأنفال قال البخاري : ما سمى الله مطرا في القرآن إلا عذابا ، وتسميه العرب الغيث كما قال تعالى ابن عيينة وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وعن أن كل ما جاء من ابن عباس يا أيها الناس فالمقصود به أهل مكة المشركون .
وقال في البيان : وفي القرآن معان لا تكاد تفترق ، مثل الصلاة والزكاة ، والجوع والخوف ، والجنة والنار ، والرغبة والرهبة ، والمهاجرين والأنصار ، والجن والإنس ، قلت : والنفع والضر ، والسماء والأرض . الجاحظ
[ ص: 125 ] وذكر صاحب الكشاف أن وفخر الدين الرازي . ويكون ذلك بأسلوب الاستطراد والاعتراض لمناسبة التضاد ، ورأيت منه قليلا في شعر العرب كقول من عادة القرآن أنه ما جاء بوعيد إلا أعقبه بوعد ، وما جاء بنذارة إلا أعقبها ببشارة لبيد :
فاقطع لبانة من تعرض وصله فلشر واصل خلة صرامها واحب المجامل بالجزيل وصرمه
باق إذا ظلعت وزاغ قوامها
وقد استقريت بجهدي عادات كثيرة في اصطلاح القرآن سأذكرها في مواضعها ، ومنها أن كلمة هؤلاء إذا لم يرد بعدها عطف بيان يبين المشار إليهم ، فإنها يراد بها المشركون من أهل مكة كقوله تعالى بل متعت هؤلاء وآباءهم وقوله فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين وقد استوعب في كتاب الكليات في أوائل أبوابه كليات مما ورد في القرآن من معاني الكلمات ، وفي الإتقان أبو البقاء الكفوي للسيوطي شيء من ذلك .
وقد استقريت أنا من أساليب القرآن أنه إذا حكى المحاورات والمجاوبات حكاها بلفظ " قال " دون حروف عطف ، إلا إذا انتقل من محاورة إلى أخرى ، انظر قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها إلى قوله أنبئهم بأسمائهم وأما الجهة الثالثة من جهات الإعجاز وهي ما أودعه من المعاني الحكمية والإشارات العلمية فاعلموا أن العرب لم يكن لهم علم سوى الشعر وما تضمنه من الأخبار : قال كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه . عمر بن الخطاب
[ ص: 126 ] إن العلم نوعان علم اصطلاحي وعلم حقيقي ، فأما الاصطلاحي فهو ما تواضع الناس في عصر من الأعصار على أن صاحبه يعد في صف العلماء ، وهذا قد يتغير بتغير العصور ويختلف باختلاف الأمم والأقطار ، وهذا النوع لا تخلو عنه أمة .
وأما فهو معرفة ما بمعرفته كمال الإنسان ، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف وإدراك الحقائق النافعة عاجلا وآجلا ، وكلا العلمين كمال إنساني ووسيلة لسيادة أصحابه على أهل زمانهم ، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه . العلم الحقيقي
وهذه الجهة خلا عنها كلام فصحاء العرب ، لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات والمتخيلات والافتراضات المختلفة ولا تحوم حول تقرير الحقائق وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن ، ولم يقل إلا صدقا كما أشار إليه . فخر الدين الرازي
وقد اشتمل القرآن على النوعين ، فأما النوع الأول فتناوله قريب لا يحتاج إلى كد فكر ولا يقتضي نظرا ، فإن مبلغ العلم عندهم يومئذ علوم أهل الكتاب ومعرفة الشرائع والأحكام وقصص الأنبياء والأمم وأخبار العالم ، وقد أشار إلى هذا القرآن بقوله وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة وقال تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ونحو هذا من محاجة أهل الكتاب . ولعل هذا هو الذي عناه عياض بقوله في الشفاء " ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم القصة منه إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قضى عمره في تعليم ذلك ، فيورده النبيء صلى الله عليه وسلم على وجهه فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه ، كخبر موسى مع الخضر ، ويوسف وإخوته ، وأصحاب الكهف ، ، وذي القرنين ولقمان إلخ كلامه " ، وإن كان هو قد ساقه في غير مساقنا بل جاء به دليلا على الإعجاز من حيث علمه به صلى الله عليه وسلم مع ثبوت الأمية ، ومن حيث محاجته إياهم بذلك .
فأما إذا أردنا عد هذا الوجه في نسق وجوه الإعجاز فذلك فيما نرى من جهة أن العرب لم يكن أدبهم مشتملا على التاريخ إلا بإشارات نادرة ، كقولهم "
درع عادية ورمح يزنية
[ ص: 127 ] وقول شاعرهمأحلام عاد وأجسام مطهرة
وقول آخرتراه يطوف الآفاق حرصا ليأكل رأس لقمان بن عاد
وأما النوع الثاني فهو ينقسم إلى قسمين : قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه ، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم فينبلج للناس شيئا فشيئا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم ، وكلا القسمين دليل على أنه من عند الله لأنه جاء به أمي في موضع لم يعالج أهله دقائق العلوم ، والجائي به ثاو بينهم لم يفارقهم . وقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص من إعجازه العلمي قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ثم إنه ما كان قصاراه مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة ، حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه وتجاوز ما درسوه وألفوه .
قال عند قوله تعالى ابن عرفة تولج الليل في النهار في سورة آل عمران : كان بعضهم يقول : إن ، وعلى ما يفهمه الفريقان ، ومنه هذه الآية فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يدركها إلا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام ، أقول : وكذلك قوله تعالى القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ يفهمها الخواص أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما فمن طرق إعجازه العلمية أنه دعا للنظر والاستدلال ، قال في الشفاء " ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد للعرب ، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم ، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم فجمع فيه من بيان علم الشرائع والتنبيه على طرق الحجة العقلية ، والرد على فرق [ ص: 128 ] الأمم ببراهين قوية وأدلة كقوله لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقوله أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ولقد فتح الأعين إلى فضائل العلوم بأن شبه العلم بالنور وبالحياة كقوله لتنذر من كان حيا وقوله يخرجهم من الظلمات إلى النور وقال وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وقال هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وهذا النوع من الإعجاز هو الذي خالف به القرآن أساليب الشعر وأغراضه مخالفة واضحة . هذا قال في الموافقات : إن القرآن لا تحمل معانيه ولا يتأول إلا على ما هو متعارف عند العرب ، ولعل هذا الكلام صدر منه في التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصادا في البحث وإبقاء على نفيس الوقت ، وإلا فكيف ينفي والشاطبي ، وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته ، وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة ، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد ولا يفيد أهل كل عصر إدراك طائفة منهم لإعجاز القرآن . وقد بينت نقض كلام إعجاز القرآن لأهل كل العصور الشاطبي في أواخر المقدمة الرابعة . وقد بدت لي حجة لتعلق هذه الجهة الثالثة بالإعجاز ودوامه وعمومه وهي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ففيه نكتتان غفل عنهما شارحوه : الأولى أن قوله " ما مثله آمن عليه البشر " اقتضى أن كل نبي جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومه أعجب به وأعجز عنه ، فيؤمنون على مثل تلك المعجزة . ومعنى " آمن عليه " أي لأجله وعلى شرطه ، كما تقول على هذا يكون عملنا أو اجتماعنا ، الثانية أن قوله وإنما كان الذي أوتيت وحيا اقتضى أن ليست معجزته من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل الأولين أفعالا لا أقوالا ، كقلب العصا وانفجار الماء من الحجر ، وإبراء الأكمه والأبرص ، بل كانت معجزته ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي أو أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي ، وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة من جهتي اللفظ والمعاني ، وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر ويتدبره ، ويفصح عن ذلك تعقيبه بقوله : فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا ، إذ قد عطف بالفاء المؤذنة بالترتب ، فالمناسبة بين كونه أوتي وحيا وبين كونه يرجو أن يكون [ ص: 129 ] أكثرهم تابعا لا تنجلي إلا إذا كانت المعجزة صالحة لجميع الأزمان حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته أمما كثيرين على اختلاف قرائحهم فيكون هو أكثر الأنبياء تابعا لا محالة ، وقد تحقق ذلك لأن المعني بالتابع التابع له في حقائق الدين الحق لا اتباع الادعاء والانتساب بالقول . ما في القرآن من دلالة على عجز البشر عن الإتيان بمثله
ولعل الرجاء متوجه إلى كونه أكثر من جميعهم تابعا أي أكثر أتباعا من أتباع جميع الأنبياء كلهم ، وقد أغفل بيان وجه التفريع في هذا اللفظ النبوي البليغ .
وهذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه أي مجموع هذا الكتاب إذ ليست كل آية من آياته ولا كل سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز ، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن وغير حاصل به التحدي إلا إشارة نحو قوله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وإعجازه من هذه الجهة للعرب ظاهر : إذ لا قبل لهم بتلك العلوم كما قال الله تعالى ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، وإعجازه لعامة الناس أن تجيء تلك العلوم من رجل نشأ أميا في قوم أميين ، وإعجازه لأهل الكتاب خاصة إذ كان ينبئهم بعلوم دينهم مع كونه أميا ، ولا قبل لهم بأن يدعوا أنهم علموه لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدا عن أهل الكتاب الذين كان مستقرهم بقرى النضير وقريظة وخيبر وتيماء وبلاد فلسطين ، ولأنه جاء بنسخ دين اليهودية والنصرانية ، والإنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم ، فلو كان قد تعلم منهم لأعلنوا ذلك وسجلوا عليه أنه عقهم حق التعليم .
وأما الجهة الرابعة وهي الإخبار بالمغيبات فقد اقتفينا أثر من سلفنا ممن عد ذلك من وجوه الإعجاز اعتدادا منا بأنه من ، وإن كان ذلك ليس له مزيد تعلق بنظم القرآن ودلالة فصاحته وبلاغته على المعاني العليا ، ولا هو كثير في القرآن ، وسيأتي التنبيه على جزئيات هذا النوع في تضاعيف هذا التفسير إن شاء الله . دلائل كون القرآن منزلا من عند الله
وقد جاء كثير من آيات القرآن بذلك منها قوله الم غلبت الروم الآية ، روى الترمذي في تفسيرها عن قال : كان المشركون يحبون أن يظهر أهل ابن عباس فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم لأنهم أهل كتاب فذكره أبو بكر لرسول الله فنزل قوله تعالى الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين فخرج أبو بكر يصيح بها في نواحي مكة ، فقال له ناس من قريش أفلا نراهنك على [ ص: 130 ] ذلك ؟ قال بلى وذلك قبل تحريم الرهان ، فلما كانت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس وأسلم عند ذلك كثير من قريش . وقوله وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا وقوله لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون فما حدث بعد ذلك من المراكب منبأ به في هذه الآية . وقوله إنا فتحنا لك فتحا مبينا نزلت قبل فتح مكة بعامين . وقوله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون وأعلن ذلك الإعجاز بالتحدي به في قوله تعالى في شأن القرآن وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله إلى قوله ولن تفعلوا فسجل أنهم لا يفعلون ذلك أبدا وكذلك كان ، كما بيناه آنفا في الجهة الثالثة .
وكأنك بعد ما قررناه في هذه المقدمة قد صرت قديرا على الحكم فيما اختلف فيه أئمة علم الكلام من إعجاز القرآن للعرب ، هل كان بما بلغه من منتهى الفصاحة والبلاغة وحسن النظم ، وما احتوى عليه من النكت والخصوصيات التي لا تقف بها عدة ، ويزيدها النظر مع طول الزمان جدة ، فلا تخطر ببال ناظر من العصور الآتية نكتة أو خصوصية إلا وجد آيات القرآن تتحملها بحيث لا يمكن إيداع ذلك في كلام إلا لعلام الغيوب وهو مذهب المحققين ، أو كان الإعجاز بصرف الله تعالى مشركي العرب عن الإتيان بمثله وأنه لولا أن الله سلبهم القدرة على ذلك لأمكن أن يأتوا بمثله لأنه مما يدخل تحت مقدور البشر ، ونسب هذا إلى وهو منقول في شرح أبي الحسن الأشعري التفتزاني على المفتاح عن النظام وطائفة من المعتزلة ، ويسمى مذهب أهل الصرفة ، وهو الذي قال به في كتابه في الملل والنحل . ابن حزم
والأول هو الوجه الذي اعتمده في كتابه إعجاز القرآن ، وأبطل ما عداه بما لا حاجة إلى التطويل به ، وعلى اعتباره دون أئمة العرب علم البلاغة ، وقصدوا من ذلك تقريب إعجاز القرآن على التفصيل دون الإجمال ، فجاءوا بما يناسب الكامل من دلائل الكمال . أبو بكر الباقلاني