ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة موقع هذه الآية من اللواتي قبلها كموقع قوله السابق ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ، فلما ذكرت أحوال أهل الشرك ، وكان منها ما حرموه على أنفسهم ، وكان المسلمون قد شاركوهم أيام الجاهلية في ذلك ، ووردت قوارع الذم لما صنعوا ، كان مما يتوهم علوقه بأذهان المسلمين أن يحسبوا أنهم سينالهم شيء من غمض لما اقترفوه في الجاهلية ، فطمأن الله نفوسهم بأنهم لما تابوا بالإقلاع عن ذلك بالإسلام ، وأصلحوا عملهم بعد أن أفسدوا فإن الله قد غفر لهم مغفرة عظيمة ، ورحمهم رحمة واسعة .
ووقع الإقبال بالخطاب على النبيء صلى الله عليه وسلم ; إيماء إلى أن تلك المغفرة من بركات الدين الذي أرسل به .
وذكر اسم الرب مضافا إلى ضمير النبيء للنكتة المتقدمة آنفا في قوله ثم إن ربك للذين هاجروا .
والجهالة : انتفاء العلم بما يجب ، والمراد : جهالتهم بأدلة الإسلام .
و ( ثم ) للترتيب الرتبي ; لأن الجملة المعطوفة بـ ( ثم ) تضمنت حكم التوبة ، وأن المغفرة والرحمة من آثارها ، وذلك أهم عند المخاطبين مما سبق من وعيد ، أي الذين عملوا السوء جاهلين بما يدل على فساد ما عملوه ، وذلك قبل أن يستجيبوا لدعوة الرسول ، فإنهم في مدة تأخرهم عن الدخول في [ ص: 314 ] الإسلام موصوفون بأنهم أهل جهالة وجاهلية ، أو جاهلين بالعقاب المنتظر على معصية الرسول ، وعنادهم إياه .
ويدخل في هذا الحكم من عمل حراما من المسلمين جاهلا بأنه حرام ، وكان غير مقصر في جهله ، وقد تقدم عند قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة في سورة النساء .
وقوله إن ربك من بعدها تأكيد لفظي لقوله ثم إن ربك ; لزيادة الاهتمام بالخبر على الاهتمام الحاصل بحرف التوكيد ، ولام الابتداء . ويتصل خبر ( إن ) باسمها لبعد ما بينهما .
ووقع الخبر بوصف الله بصفة المبالغة في المغفرة والرحمة ، وهو كناية عن غفرانه لهم ، ورحمته إياهم في ضمن وصف الله بهاتين الصفتين العظيمتين .
والباء في ( بجهالة ) للملابسة ، وهي في موضع الحال من ضمير عملوا .
وضمير من بعدها عائد إلى الجهالة أو إلى التوبة .