ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن يتنزل معنى هذه الآية منزلة البيان لقوله أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا فإن المراد بما أوحي إليه من اتباع ملة إبراهيم هو دين الإسلام ، ودين الإسلام مبني على قواعد الحنيفية ، فلا جرم كان الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته الناس إلى الإسلام داعيا إلى اتباع ملة إبراهيم .
ومخاطبة الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر في حين أنه داع إلى الإسلام وموافق لأصول ملة إبراهيم دليل على أن صيغة الأمر مستعملة في طلب الدوام على الدعوة الإسلامية ، مع ما انضم إلى ذلك من الهداية إلى طرائق الدعوة إلى الدين .
فتضمنت هذه الآية تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على الدعوة ، وأن لا يؤيسه قول المشركين له إنما أنت مفتر وقولهم إنما يعلمه بشر ، وأن لا يصده عن الدعوة أنه تعالى لا يهدي الذين لا يؤمنون بآيات الله ، ذلك أن المشركين لم يتركوا حيلة يحسبونها تثبط النبيء صلى الله عليه وسلم عن دعوته إلا ألقوا بها إليه ، من : تصريح بالتكذيب ، واستسخار ، وتهديد ، وبذاءة ، واختلاق ، وبهتان ، كما ذلك محكي في تضاعيف [ ص: 326 ] القرآن ، وفي هذه السورة ; لأنهم يجهلون مراتب أهل الاصطفاء ويزنونهم بمعيار موازين نفوسهم ، فحسبوا ما يأتونه من الخزعبلات مثبطا له ، وموشكا لأن يصرفه عن دعوتهم .
وسبيل الرب : طريقه ، وهو مجاز لكل عمل من شأنه أن يبلغ عامله إلى رضى الله تعالى ; لأن العمل الذي يحصل لعامله غرض ما يشبه الطريق الموصل إلى مكان مقصود ، فلذلك يستعار اسم السبيل لسبب الشيء .
قال القرطبي : إن هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش ، أي في مدة صلح الحديبية .
وحكى الواحدي عن : أنها نزلت عقب غزوة ابن عباس أحد لما أحزن النبيء صلى الله عليه وسلم منظر المثلة بحمزة رضي الله عنه ، وقال ، وهذا يقتضي أن الآية مدنية . لأقتلن مكانه سبعين رجلا منهم
ولا أحسب ما ذكراه صحيحا ، ولعل الذي غر من رواه قوله وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به كما سيأتي ، بل موقع الآية متصل بما قبله غير محتاج إلى إيجاد سبب نزول .
وإضافة ( سبيل ) إلى ( ربك ) باعتبار أن الله أرشد إليه ، وأمر بالتزامه ، وهذه الإضافة تجريد للاستعارة ، وصار هذا المركب علما بالغلبة على دين الإسلام ، كما في قوله تعالى إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ، وهو المراد هنا ، وفي قوله عقبه إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله .
ويطلق سبيل الله علما بالغلبة أيضا على نصرة الدين بالقتال كما في قوله تعالى وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله .
والباء في قوله بالحكمة للملابسة ، كالباء في قول العرب للمعرس : بالرفاء والبنين ، بتقدير : أعرست ، يدل عليه المقام ، وهي إما متعلقة بـ ( ادع ) ، أو في موضع الحال من ضمير ( ادع ) .
[ ص: 327 ] وحذف مفعول ( ادع ) لقصد التعميم ، أو لأن الفعل نزل منزلة اللازم ; لأن المقصود الدوام على الدعوة ، لا بيان المدعوين ; لأن ذلك أمر معلوم من حال الدعوة .
ومعنى الملابسة يقتضي أن لا تخلو دعوته إلى سبيل الله عن هاتين الخصلتين : . الحكمة ، والموعظة الحسنة
فالحكمة : هي المعرفة المحكمة ، أي الصائبة المجردة عن الخطأ ، فلا تطلق الحكمة إلا على المعرفة الخالصة عن شوائب الأخطاء ، وبقايا الجهل في تعليم الناس وفي تهذيبهم ، ولذلك عرفوا الحكمة بأنها : معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية ، بحيث لا تلتبس على صاحبها الحقائق المتشابهة بعضها ببعض ، ولا تخطئ في العلل والأسباب ، وهي اسم جامع لكل كلام أو علم يراعى فيه إصلاح حال الناس ، واعتقادهم إصلاحا مستمرا لا يتغير ، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء في سورة البقرة مفصلا فانظره ، وتطلق الحكمة على العلوم الحاصلة للأنبياء ، ويرادفها الحكم .
والموعظة : القول الذي يلين نفس المقول له لعمل الخير ، وهي أخص من الحكمة ; لأنها حكمة في أسلوب خاص لإلقائها ، تقدمت عند قوله تعالى فأعرض عنهم وعظهم في سورة النساء ، وعند قوله موعظة وتفصيلا لكل شيء في سورة الأعراف .
ووصفها بالحسن تحريض على أن تكون لينة مقبولة عند الناس ، أي حسنة في جنسها ، وإنما تتفاضل الأجناس بتفاضل الصفات المقصودة منها .
وعطف الموعظة على الحكمة لأنها تغاير الحكمة بالعموم والخصوص الوجهي ، فإنه قد يسلك بالموعظة مسلك الإقناع ، فمن الموعظة حكمة ، ومنها خطابة ، ومنها جدل .
[ ص: 328 ] وهي من حيث ماهيتها بينها وبين الحكمة العموم والخصوص من وجه ، ولكن المقصود بها ما لا يخرج عن الحكمة والموعظة الحسنة بقرينة تغيير الأسلوب ، إذ لم يعطف مصدر المجادلة على الحكمة والموعظة بأن يقال : والمجادلة بالتي هي أحسن ، بل جيء بفعلها ، على أن المقصود تقييد الإذن فيها بأن تكون كالتي هي أحسن ، كما قال ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن .
والمجادلة : الاحتجاج لتصويب رأي ، وإبطال ما يخالفه أو عمل كذلك ، ولما كان ما لقيه النبيء صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين قد يبعثه على الغلظة في المجادلة ؛ أمره الله بأن يجادلهم بالتي هي أحسن . وتقدمت قريبا عند قوله تجادل عن نفسها . وتقدمت من قبل عند قوله ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم في سورة النساء ، والمعنى : إذا ألجأت الدعوة إلى محاجة المشركين فحاججهم بالتي هي أحسن ، والمفضل عليه المحاجة الصادرة منهم ، فإن المجادلة تقتضي صدور الفعل من الجانبين ، فعلم أن المأمور به أن تكون المحاجة الصادرة منه أشد حسنا من المحاجة الصادرة منهم ، كقوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن .
ولما كانت المجادلة لا تكون إلا مع المعارضين صرح في المجادلة بضمير جمع الغائبين المراد منه المشركون ، فإن المشركين متفاوتون في كيفيات محاجتهم ، فمنهم من يحاج بلين ، مثل ما في الحديث : أن النبيء صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن على الوليد بن المغيرة ثم قال له : هل ترى بما أقول بأسا قال : لا والماء ، وقرأ النبيء صلى الله عليه وسلم القرآن على عبد الله بن أبي بن سلول في مجلس قومه ، فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء إن كان ما تقول حقا فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدث إياه ومن لم يأتك فلا تغشه ولا تأته في مجلسه بما يكره منه .
[ ص: 329 ] تكرر غير مرة ، ومن ذلك ما روي عن وتصدي المشركين لمجادلة النبيء صلى الله عليه وسلم : ابن عباس إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم الآية ، قال عبد الله الزبعرى : لأخصمن محمدا ، فجاءه فقال : يا محمد قد عبد عيسى ، وعبدت الملائكة فهل هم حصب لجهنم ؟ فقال النبيء صلى الله عليه وسلم اقرأ ما بعد إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون . أخرجه أنه لما نزل قوله تعالى ابن المنذر وابن مردويه والطبراني ، وأبو داود في كتاب الناسخ والمنسوخ .
وقيدت الموعظة بالحسنة ، ولم تقيد الحكمة بمثل ذلك ; لأن الموعظة لما كان المقصود منها غالبا ردع نفس الموعوظ عن أعماله السيئة أو عن توقع ذلك منه ، كانت مظنة لصدور غلظة من الواعظ ، ولحصول انكسار في نفس الموعوظ ، وأرشد الله رسوله أن يتوخى في الموعظة أن تكون حسنة ، أي بإلانة القول وترغيب الموعوظ في الخير ، قال تعالى خطابا لموسى وهارون اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى .
وفي حديث الترمذي عن أنه قال : العرباض بن سارية الحديث . وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون
وأما الحكمة فهي تعليم لمتطلبي الكمال من معلم يهتم بتعليم طلابه ، فلا تكون إلا في حالة حسنة ، فلا حاجة إلى التنبيه على أن تكون حسنة .
والمجادلة لما كانت محاجة في فعل أو رأي لقصد الإقناع بوجه الحق فيه ، فهي لا تعدو أن تكون من الحكمة أو من الموعظة ، ولكنها جعلت قسيما لهما هنا بالنظر إلى الغرض الداعي إليها .
وإذ قد كانت مجادلة النبيء صلى الله عليه وسلم لهم من ذيول الدعوة وصفت بالتي هي أحسن ، كما وصفت الموعظة بالحسنة .
[ ص: 330 ] وقد كان المشركون يجادلون النبيء قصدا لإفحامه ، وتمويها لتغليطه ، نبه الله على أسلوب مجادلة النبيء إياهم ; استكمالا لآداب وسائل الدعوة كلها ، فالضمير في وجادلهم عائد إلى المشركين بقرينة المقام ; لظهور أن المسلمين لا يجادلون النبيء صلى الله عليه وسلم ، ولكن يتلقون منه تلقي المستفيد والمسترشد ، وهذا موجب تغيير الأسلوب بالنسبة إلى المجادلة ؛ إذ لم يقل : والمجادلة الحسنة ، بل قال وجادلهم ، وقال تعالى أيضا ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن .
ويندرج في التي هي أحسن رد تكذيبهم بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجه ، مثل قوله تعالى وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وقوله وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون .
والآية تقتضي أن القرآن مشتمل على هذه الطرق الثلاثة من ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا الناس بغير القرآن من خطبه ومواعظه وإرشاده يسلك معهم هذه الطرق الثلاثة ، وذلك كله بحسب ما يقتضيه المقام من معاني الكلام ، ومن أحوال المخاطبين ، من خاصة وعامة . أساليب الدعوة
وليس المقصود لزوم كون الكلام الواحد مشتملا على هذه الأحوال الثلاثة ، بل قد يكون الكلام حكمة مشتملا على غلظة ووعيد وخاليا عن المجادلة ، وقد يكون مجادلة غير موعظة ، كقوله تعالى ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض .
وكقول النبيء صلى الله عليه وسلم إنك لتأكل المرباع وهو حرام في دينك ، قاله وهو نصراني قبل إسلامه . لعدي بن حاتم
[ ص: 331 ] ومن أن هذه الآية جمعت أصول الاستدلال العقلي الحق ، وهي البرهان ، والخطابة ، والجدل المعبر عنها في علم المنطق بالصناعات ، وهي المقبولة من الصناعات ، وأما السفسطة ، والشعر فيربأ عنهما الحكماء الصادقون بله الأنبياء والمرسلين . الإعجاز العلمي في القرآن
قال فخر الدين : إن الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بد من أن تكون مبنية على حجة ، والمقصود من ذكر الحجة إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب السامعين ، وإما إلزام الخصم وإفحامه .
أما القسم الأول فينقسم إلى قسمين ; لأن تلك الحجة إما أن تكون حجة حقيقية يقينية مبرأة من احتمال النقيض ، وإما أن لا تكون كذلك بل تكون مفيدة ظنا ظاهرا وإقناعا ، فظهر انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة : أولها : الحجة المفيدة للعقائد اليقينية ، وذلك هو المسمى بالحكمة .
وثانيها : الأمارات الظنية ، وهي الموعظة الحسنة .
وثالثها : الدلائل التي القصد منها إفحام الخصم ، وذلك هو الجدل .
وهو على قسمين ، لأنه : إما أن يكون مركبا من مقدمات مسلمة عند الجمهور ، وهو الجدل الواقع على الوجه الأحسن ، وإما أن يكون مركبا من مقدمات باطلة يحاول قائلها ترويجها على المستمعين بالحيل الباطلة ، وهذا لا يليق بأهل الفضل ، اهـ .
وهذا هو المدعو في المنطق بالسفسطة ، ومنه المقدمات الشعرية ، وهي سفسطة مزوقة .
والآية جامعة لأقسام الحجة الحق ، جمعا لمواقع أنواعها في طرق الدعوة ، ولكن على وجه التداخل ، لا على وجه التباين والتقسيم كما هو مصطلح المنطقيين ، فإن الحجج الاصطلاحية عندهم بعضها قسيم لبعض [ ص: 332 ] فالنسبة بينها التباين ، أما طرق الدعوة الإسلامية فالنسبة بينها العموم والخصوص المطلق أو الوجهي . وتفصيله يخرج بنا إلى تطويل ، وذهنك في تفكيكها غير كليل .
فإلى الحكمة ترجع صناعة البرهان ; لأنه يتألف من المقدمات اليقينية ، وهي حقائق ثابتة تقتضي حصول معرفة الأشياء على ما هي عليه .
وإلى الموعظة ترجع صناعة الخطابة ; لأن الخطابة تتألف من مقدمات ظنية ; لأنها مراعى فيها ما يغلب عند أهل العقول المعتادة ، وكفى بالمقبولات العادية موعظة ، ومثالها من القرآن قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا فقوله ومقتا أشار إلى أنهم كانوا إذا فعلوه في الجاهلية يسمونه نكاح المقت ، فأجري عليه هذا الوصف ; لأنه مقنع بأنه فاحشة ، فهو استدلال خطابي .
وأما الجدل فما يورد في المناظرات والحجاج من الأدلة المسلمة بين المتحاجين أو من الأدلة المشهورة ، فأطلق اسم الجدل على الاستدلال الذي يروج في خصوص المجادلة ، ولا يلتحق بمرتبة الحكمة ، وقد يكون مما يقبل مثله في الموعظة لو ألقي في غير حال المجادلة ، وسماه حكماء الإسلام جدلا تقريبا للمعنى الذي يطلق عليه في اللغة اليونانية .