تفريع على قوله وإن أسأتم فلها ؛ إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعد المرة الآخرة .
وقد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاء لحق التقسيم الأول في قوله فإذا جاء وعد أولاهما ، ولحق إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة ، ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع .
و ( الآخرة ) صفة لمحذوف دل عليه قوله مرتين . أي وعد المرة الآخرة .
وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء .
[ ص: 36 ] والآخرة ضد الأولى .
ولامات ليسوءوا ، وليدخلوا ، وليتبروا للتعليل ، وليست للأمر ; لاتفاق القراءات المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث ، ولو كانا لامي أمر لكانا ساكنين بعد واو العطف ، فيتعين أن اللام الأولى لام أمر لا لام جر ، والتقدير : فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عبادا لنا ليسوءوا وجوهكم إلخ .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، وأبو جعفر ، ويعقوب ليسوءوا بضمير الجمع مثل أخواته الأفعال الأربعة ، والضمائر راجعة إلى محذوف دل عليه لام التعليل في قوله ليسوءوا إذ هو متعلق بما دل عليه قوله في وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا ، فالتقدير : فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عبادا لنا ليسوءوا وجوهكم ، وليست عائدة إلى قوله عبادا لنا المصرح به في قوله فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ; لأن الذين أساءوا ، ودخلوا المسجد هذه المرة أمة غير الذين جاسوا خلال الديار حسب شهادة التاريخ ، وأقوال المفسرين كما سيأتي .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ( ليسوء ) بالإفراد ، والضمير لله تعالى ، وقرأ ( لنسوء ) بنون العظمة ، وتوجيه هاتين القراءتين من جهة موافقة رسم المصحف أن الهمزة المفتوحة بعد الواو قد ترسم بصورة ألف ، فالرسم يسمح بقراءة واو الجماعة على أن يكون الألف ألف الفرق وبقراءتي الإفراد على أن الألف علامة الهمزة . الكسائي
وضميرا ( ليسوءوا ) و ( ليدخلوا ) عائدان إلى عبادا لنا باعتبار لفظه لا باعتبار ماصدق المعاد ، على نحو قولهم : عندي درهم ونصفه ، أي نصف صاحب اسم درهم ، وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بعد الزمن بين المرتين : فكان هذا الإضمار من الإيجاز .
[ ص: 37 ] وضمير ( كما دخلوه ) عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها . وقول عباس بن مرداس :
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
فالسياق دال على معاد ( أحرزوا ) ومعاد ( جمعوا ) .وسوء الوجوه : جعل المساءة عليها ، أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم ; لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن ، أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد ، كقول الأعشى :
وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
أراد إذا ما تفرق الناس ، وتظهر علامات الفرق في أعينهم .ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله كما دخلوه أول مرة المراد منه قوله فجاسوا خلال الديار .
والتتبير : الإهلاك والإفساد .
و ( ما علوا ) موصول هو مفعول يتبروا ، وعائد الصلة محذوف ; لأنه متصل منصوب ، والتقدير : ما علوه ، والعلو علو مجازي ، وهو الاستيلاء والغلب .
ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة ، فكان إيماء إلى أنهم لا ملك لهم بعد هذه المرة ، وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه اليهود من المفاسد والتمرد ، وقتل الأنبياء ، والصالحين ، والاعتداء على عيسى وأتباعه ، وقد أنذرهم النبيء ( ملاخي ) في الإصحاحين الثالث والرابع من كتابه ، وأنذرهم زكرياء ، ويحيى ، وعيسى فلم يرعووا ; فضربهم الله الضربة القاضية بيد الرومان .
[ ص: 38 ] وبيان ذلك : أن اليهود بعد أن عادوا إلى أورشليم ، وجددوا ملكهم ومسجدهم في زمن داريوس ، وأطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون ، وكانوا تحت نفوذ مملكة فارس ، فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة 530 إلى سنة 330 قبل المسيح ، ثم أخذ ملكهم في الانحلال بهجوم البطالسة ملوك مصر على أورشليم ; فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة 166 قبل المسيح ، إذ قام قائد من إسرائيل اسمه ( ميثيا ) وكان من اللاويين ، فانتصر لليهود ، وتولى الأمر عليهم ، وتسلسل الملك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل المسيح ، دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين ، وأقاموا عليها أمراء من اليهود كان أشهرهم ( هيرودس ) ثم تمردوا للخروج على الرومانيين ، فأرسل قيصر رومية القائد سيسيانوس مع ابنه القائد طيطوس بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد المسيح فخربت أورشليم واحترق المسجد ، وأسر طيطوس نيفا وتسعين ألفا من اليهود ، وقتل من اليهود في تلك الحروب نحو ألف ألف ، ثم استعادوا المدينة ، وبقي منهم شرذمة قليلة بها إلى أن وافاهم الإمبراطور الروماني أدريانوس ، فهدمها ، وخربها ، ورمى قناطير الملح على أرضها ; كيلا تعود صالحة للزراعة ، وذلك سنة 135 للمسيح ، وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض ، وتفرقوا في الأرض ولم تخرج أورشليم من حكم الرومان إلا حين فتحها المسلمون في زمن سنة 16 صلحا مع أهلها ، وهي تسمى يومئذ عمر بن الخطاب إيلياء .
وقوله : ( وإن عدتم عدنا ) يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة ( عسى ربكم أن يرحمكم ) عطف الترهيب على الترغيب .
ويجوز أن تكون معترضة ، والواو اعتراضية ، والمعنى : بعد أن يرحمكم ربكم ، ويؤمنكم في البلاد التي تلجئون إليها ، إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم ، أي عدنا لمثل ما تقدم من عقاب الدنيا . [ ص: 39 ] وجملة ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) عطف على جملة ( عسى ربكم أن يرحمكم ) ; لإفادة أن ما ذكر قبله من عقاب إنما هو عقاب دنيوي ، وأن وراءه عقاب الآخرة .
وفيه معنى التذييل ; لأن التعريف في الكافرين يعم المخاطبين وغيرهم ، ويومئ هذا إلى أن عقابهم في الدنيا ليس مقصورا على ذنوب الكفر ، بل هو منوط بالإفساد في الأرض وتعدي حدود الشريعة ، وأما الكفر بتكذيب الرسل فقد حصل في المرة الآخرة فإنهم كذبوا عيسى ، وأما في المرة الأولى فلم تأتهم رسل ، ولكنهم قتلوا الأنبياء مثل أشعياء ، وأرمياء ، وقتل الأنبياء كفر .
والحصير : المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه ، فهو إما فعيل بمعنى فاعل ، وإما بمعنى مفعول على تقدير متعلق ، أي محصور فيه .