[ ص: 56 ] وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا   
ضرب مثال لإهلاك القرى الذي وصف سببه ، وكيفيته في الآية السابقة ، فعقب ذلك بتمثيله ; لأنه أشد في الكشف ، وأدخل في التحذير المقصود ، وفي ذلك تحقيق لكون حلول العذاب بالقرى مقدما بإرسال الرسول إلى أهل القرية ، ثم بتوجيه الأوامر إلى المترفين ثم فسقهم عنها ، وكان زعماء الكفرة من قوم نوح  مترفين ، وهم الذين قالوا ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي    ) وقال لهم نوح  عليه السلام ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا    . 
فكان مقتضى الظاهر عطف هذه الجملة بالفاء ; لأنها كالفرع على الجملة قبلها ، ولكنها عطفت بالواو ; إظهارا لاستقلالها بوقع التحذير من جهة أخرى ; فكان ذلك تحريجا على خلاف مقتضى الظاهر لهذا الاعتبار المناسب . 
و ( كم ) في الأصل استفهام عن العدد ، وتستعمل خبرية دالة على عدد كثير مبهم النوع ، فلذلك تحتاج إلى تمييز لنوع العدد ، وهي هنا خبرية في محل نصب بالفعل الواقع بعدها ; لأنها التزم تقديمها على الفعل ; نظرا لكون أصلها الاستفهام ، وله صدر الكلام ، و من القرون تمييز للإبهام الذي اقتضته ( كم ) . 
والقرون : جمع قرن ، وهو في الأصل المدة الطويلة من الزمن فقد يقدر بمائة سنة وبأربعين سنة ، ويطلق على الناس الذين يكونون في تلك المدة كما هنا ، وفي الحديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ، أراد أهل قرني ، أي أهل القرن الذي أنا فيه ، وقال الله تعالى وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا    . 
 [ ص: 57 ] وتخصيص من بعد نوح  إيجاز ، كأنه قيل : من قوم نوح  فمن بعدهم ، وقد جعل زمن نوح  مبدأ لقصص الأمم ; لأنه أول رسول ، واعتبر القصص من بعده ; لأن زمن نوح  صار كالمنقطع بسبب تجديد عمران الأرض بعد الطوفان ، ولأن العذاب الذي حل بقومه عذاب مهول ، وهو الغرق الذي أحاط بالعالم . 
ووجه ذكره تذكير المشركين به وأن عذاب الله لا حد له ، والتنبيه على أن الضلالة تحول دون الاعتبار بالعواقب ، ودون الاتعاظ بما يحل بمن سبق ، وناهيك بما حل بقوم نوح  من العذاب المهول . 
وجملة وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا  إقبال على خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم بالخصوص ; لأن كل ما سبق من الوعيد والتهديد إنما مآله إلى حمل الناس على تصديق محمد  صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من القرآن بعد أن لجوا في الكفر ، وتفننوا في التكذيب ، فلا جرم ختم ذلك بتطمين النبيء بأن الله مطلع على ذنوب القوم ، وهو تعريض بأنه مجازيهم بذنوبهم بما يناسب فظاعتها ، ولذلك جاء بفعل كفى وبوصفي خبيرا بصيرا المكنى بذكرهما عن عدم إفلات شيء من ذنوبهم المرئية ، والمعلومة من ضمائرهم أعني أعمالهم ونواياهم . 
وقدم ما هو متعلق بالضمائر والنوايا ; لأن العقائد أصل الأعمال في الفساد والصلاح ، وفي الحديث : ألا وإن في الجسد مضعة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب   . 
وفي ذكر فعل ( كفى ) إيماء إلى أن النبيء غير محتاج إلى من ينتصر له غير ربه فهو كافية وحسبه ، قال فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم  ، أو إلى أنه في غنية عن الهم في شأنهم كقوله لنوح  فلا تسألني ما ليس لك به علم  فهذا إما تسلية له عن أذاهم ، وإما صرف له عن التوجع لهم ، وفي خطاب النبيء بذلك تعريض بالوعيد لسامعيه من الكفار . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					