معلومة حالة العرب في الجاهلية من التسرع إلى قتل النفوس فكان حفظ النفوس من أعظم القواعد الكلية للشريعة الإسلامية ، ولذلك كان النهي عن قتل النفس من أهم الوصايا التي أوصى بها الإسلام أتباعه في هذه الآيات الجامعة ، وهذه هي الوصية التاسعة .
والنفس هنا الذات كقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم وقوله أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا وقوله وما تدري نفس بأي أرض تموت ، وتطلق النفس على الروح الإنساني وهي النفس الناطقة .
والقتل : الإماتة بفعل فاعل ، أي إزالة الحياة عن الذات .
وقوله حرم الله حذف العائد من الصلة إلى الموصول ; لأنه ضمير منصوب بفعل الصلة وحذفه كثير ، والتقدير : حرمها الله ، وعلق التحريم بعين النفس ، والمقصود تحريم قتلها .
[ ص: 92 ] ووصفت النفس بالموصول والصلة بمقتضى كون تحريم قتلها مشهورا من قبل هذا النهي ، إما لأنه تقرر من قبل بآيات أخرى نزلت قبل هذه الآية وقبل آية الأنعام حكما مفرقا ، وجمعت الأحكام في هذه الآية وآية الأنعام ، وإما لتنزيل الصلة منزلة المعلوم ; لأنها مما لا ينبغي جهله فيكون تعريضا بأهل الجاهلية الذين كانوا يستخفون بقتل النفس بأنهم جهلوا ما كان عليهم أن يعلموه ، تنويها بهذا الحكم ، وذلك أن النظر في خلق هذا العالم يهدي العقول إلى أن الله أوجد الإنسان ; ليعمر به الأرض ، كما قال تعالى هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ، فالإقدام على إتلاف نفس هدم لما أراد الله بناءه ، على أنه قد تواتر وشاع بين الأمم في سائر العصور والشرائع من عهد آدم صون النفوس من الاعتداء عليها بالإعدام ، فبذلك وصفت بأنها التي حرم الله ، أي عرفت بمضمون هذه الصلة .
واستثني من عموم النهي القتل المصاحب للحق ، أي الذي يشهد الحق أن نفسا معينة استحقت الإعدام من المجتمع ، وهذا مجمل يفسره في وقت النزول ما هو معروف من أحكام القود على وجه الإجمال .
ولما كانت هذه الآيات سيقت مساق التشريع للأمة ، وإشعارا بأن سيكون في الأمة قضاء ، وحكم فيما يستقبل أبقي مجملا حتى تفسره الأحكام المستأنفة من بعد ، مثل آية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إلى قوله وأعد له عذابا عظيما .
فالباء في قوله بالحق للمصاحبة ، وهي متعلقة بمعنى الاستثناء ، أي إلا قتلا ملابسا للحق .
والحق بمعنى العدل ، أو بمعنى الاستحقاق ، أي حق القتل ، كما في الحديث : فإذا قالوها أي لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها .
ولما كان الخطاب بالنهي لجميع الأمة كما دل عليه الفعل في سياق النهي كان تعييم الحق المبيح لقتل النفس موكولا إلى من لهم تعيين الحقوق .
[ ص: 93 ] ولما كانت هذه الآية نازلة قبل الهجرة فتعيين الحق يجري على ما هو متعارف بين القبائل ، وهو ما سيذكر في قوله تعالى عقب هذا ومن قتل مظلوما الآية .
وحين كان المسلمون وقت نزول هذه الآية مختلطين في مكة بالمشركين ، ولم يكن المشركون أهلا للثقة بهم في الطاعة للشرائع العادلة ، وكان قد يعرض أن يعتدي أحد المشركين على أحد المسلمين بالقتل ظلما أمر الله المسلمين بأن المظلوم لا يظلم ، فقال ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا أي قد جعل لولي المقتول تصرفا في القاتل بالقود أو الدية .
والسلطان : مصدر من السلطة كالغفران ، والمراد به ما استقر في عوائدهم من حكم القود .
وكونه حقا لولي القتيل يأخذ به أو يعفو أو يأخذ الدية ألهمهم الله إليه ; لئلا ينزوا أولياء القتيل على القاتل أو ذويه ليقتلوا منهم من لم تجن يداه قتلا ، وهكذا تستمر الترات بين أخذ ورد ، فقد كان ذلك من عوائدهم أيضا .
فالمراد بالجعل ما أرشد الله إليه أهل الجاهلية من عادة القود .
والقود من جملة المستثنى بقوله إلا بالحق ; لأن القود من القاتل الظالم هو قتل للنفس بالحق ، وهذه حالة خصها الله بالذكر لكثرة وقوع العدوان في بقية أيام الجاهلية ، فأمر الله المسلمين بقبول القود ، وهذا مبدأ صلاح عظيم في المجتمع الإسلامي ، وهو حمل أهله على اتباع الحق والعدل حتى لا يكون الفساد من طرفين فيتفاقم أمره ، وتلك عادة جاهلية ، قال الشميذر الحارثي :
فلسنا كمن كنتم تصيبون سلة فنقبل ضيما أو نحكم قاضيا     ولكن حكم السيف فينا مسلط 
فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا 
والسرف : الزيادة على ما يقتضيه الحق ، وليس خاصا بالمال كما يفهم من كلام أهل اللغة ، فالسرف في القتل هو أن يقتل غير القاتل ، أما مع القاتل وهو واضح كما قال المهلهل في الأخذ بثأر أخيه كليب :
كل قتيل في كليب غرة     حتى يعم القتل آل مرة 
فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له     بواء ولكن لا تكايل بالدم 
وضمير يسرف بياء الغيبة ، في قراءة الجمهور ، يعود إلى الولي مظنة السرف في القتل بحسب ما تعودوه ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف بتاء الخطاب أي خطاب للولي . وجملة إنه كان منصورا استئناف ، أي أن ولي المقتول كان منصورا بحكم القود ، فلماذا يتجاوز الحد من النصر إلى الاعتداء والظلم بالسرف في القتل ، حذرهم الله من السرف في القتل ، وذكرهم بأنه جعل للولي سلطانا على القاتل .
وقد أكد ذلك بحرف التوكيد وبإقحام ( كان ) الدال على أن الخبر مستقر الثبوت ، وفيه إيماء إلى أن من تجاوز حد العدل إلى السرف في القتل لا ينصر .
[ ص: 95 ] ومن نكت القرآن وبلاغته وإعجازه الخفي الإتيان بلفظ ( سلطان ) هنا الظاهر في معنى المصدر ، أي السلطة والحق والصالح لإرادة إقامة السلطان ، وهو الإمام الذي يأخذ الحقوق من المعتدين إلى المعتدى عليهم حين تنتظم جامعة المسلمين بعد الهجرة ، ففيه إيماء إلى أن الله سيجعل للمسلمين دولة دائمة ، ولم يكن للمسلمين يوم نزول الآية سلطان .
وهذا الحكم منوط بالقتل الحادث بين الأشخاص وهو قتل العدوان ، فأما القتل الذي هو لحماية البيضة والذب عن الحوزة ، وهو الجهاد ، فله أحكام أخرى ، وبهذا تعلم التوجيه للإتيان بضمير جماعة المخاطبين على ما تقدم في قوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق وما عطف عليه من الضمائر .
واعلم أن جملة ومن قتل مظلوما معطوفة على جملة ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق عطف قصة على قصة ; اهتماما بهذا الحكم بحيث جعل مستقلا ، فعطف على حكم آخر ، وإلا فمقتضى الظاهر أن تكون مفصولة ، إما استئنافا لبيان حكم حالة تكثر ، وإما بدل بعض من جملة إلا بالحق .
و ( من ) موصولة مبتدأ مراد بها العموم ، أي وكل الذي يقتل مظلوما ، وأدخلت الفاء في جملة خبر المبتدأ ; لأن الموصول يعامل معاملة الشرط إذا قصد به العموم ، والربط بينه وبين خبره .
وقوله تعالى : فقد جعلنا لوليه سلطانا هو في المعنى مقدمة للخبر بتعجيل ما يطمئن نفس ولي المقتول ، والمقصود من إلخبر التفريع بقوله تعالى فلا يسرف في القتل ، فكان تقديم قوله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا تمهيدا لقبول النهي عن السرف في القتل ; لأنه إذا كان قد جعل له سلطانا فقد صار الحكم بيده ، وكفاه ذلك شفاء لغليله .
[ ص: 96 ] ومن دلالة الإشارة أن قوله فقد جعلنا لوليه سلطانا إشارة إلى إبطال تولي ولي المقتول قتل القاتل دون حكم من السلطان ; لأن ذلك مظنة للخطأ في تحقيق القاتل ، وذريعة لحدوث قتل آخر بالتدافع بين أولياء المقتول وأهل القاتل ، ويجر إلى الإسراف في القتل الذي ما حدث في زمان الجاهلية إلا بمثل هذه الذريعة ، فضمير فلا يسرف عائد إلى وليه .
وجملة إنه كان منصورا تعليل للكف عن الإسراف في القتل ، والضمير عائد إلى وليه .
و ( في ) من قوله في القتل للظرفية المجازية ; لأن الإسراف يجول في كسب ومال ونحوه ، فكأنه مظروف في جملة ما جال فيه .
ولما رأى بعض المفسرين أن الحكم الذي تضمنته هذه الآية لا يناسب إلا أحوال المسلمين الخالصين استبعد أن تكون الآية نازلة بمكة فزعم أنها مدنية ، وقد بينا وجه مناسبتها ، وأبطلنا أن تكون مكية في صدر هذه السورة .
				
						
						
