ذلك خير وأحسن تأويلا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم هذان حكمان هما الثاني عشر ، والثالث عشر من الوصايا التي قضى الله بها ، وتقدم القول في نظيره في سورة الأنعام .
وزيادة الظرف في هذه الآية وهو إذا كلتم دون ذكر نظيره في آية الأنعام لما في ( إذا ) من معنى الشرطية فتقتضي تجدد ما تضمنه الأمر في [ ص: 98 ] جميع أزمنة حصول مضمون شرط إذا الظرفية الشرطية للتنبيه على عدم التسامح في شيء من نقص الكيل عند كل مباشرة له ، ذلك أن هذا خطاب للمسلمين بخلاف آية ( الأنعام ) فإن مضمونها تعريض بالمشركين في سوء شرائعهم ، وكانت هنا أجدر بالمبالغة في التشريع .
وفعل كال يدل على أن فاعله مباشر الكيل ، فهو الذي يدفع الشيء المكيل ، وهو بمنزلة البائع ، ويقال للذي يقبض الشيء المكيل : مكتال ، وهو من أخوات باع وابتاع ، وشرى واشترى ، ورهن وارتهن ، قال تعالى الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون .
و القسطاس بضم القاف في قراءة الجمهور ، وقرأه بالكسر حفص ، وحمزة ، ، والكسائي وخلف ، وهما لغتان فيه ، وهو اسم للميزان ، أي : آلة الوزن ، واسم للعدل ، قيل : هو معرب من الرومية مركب من كلمتين قسط ، أي عدل ، وطاس وهو كفة الميزان ، وفي صحيح وقال البخاري مجاهد : القسطاس : العدل بالرومية ، ولعل كلمة قسط اختصار لقسطاس ; لأن غالب الكلمات الرومية تنتهي بحرف السين ، وأصله في الرومية مضموم الحرف الأول ، وإنما غيره العرب بالكسر على وجه الجواز ; لأنهم لا يتحرون في ضبط الكلمات الأعجمية ، ومن أمثالهم ( أعجمي فالعب به ما شئت ) .
ومعنى العدل والميزان صالحان هنا ، لكن التي في الأنعام جاء فيها بالقسط فهو العدل ; لأنها سيقت مساق التذكير للمشركين بما هم عليه من المفاسد فناسب أن يذكروا بالعدل ليعلموا أن ما يفعلونه ظلم ، والباء هنالك للملابسة ، وهذه الآية جاءت خطابا للمسلمين ; فكانت أجدر باللفظ الصالح لمعنى آلة الوزن ; لأن شأن التشريع بيان تحديد العمل مع كونه يومئ إلى معنى العدل على استعمال المشترك في معنييه ، فالباء هنا ظاهرة في معنى الاستعانة والآلة ، ومفيدة للملابسة أيضا .
[ ص: 99 ] والمستقيم : السوي ، مشتق من القوام بفتح القاف ، وهو اعتدال الذات ، يقال : قومته فاستقام ، ووصف الميزان به ظاهر ، وأما العدل فهو وصف له كاشف ; لأن العدل كله استقامة .
وجملة ذلك خير مستأنفة ، والإشارة إلى المذكور وهو الكيل والوزن المستفاد من فعلي ( كلتم ، وزنوا ) .
و خير تفضيل ، أي خير من التطفيف ، أي خير لكم ، فضل على التطفيف تفضيلا لخير الآخرة الحاصل من ثواب الامتثال على خير الدنيا الحاصل من الاستفضال الذي يطففه المطفف ، وهو أيضا أفضل منه في الدنيا ; لأن انشراح النفس الحاصل للمرء من الإنصاف في الحق أفضل من الارتياح الحاصل له باستفضال شيء من المال .
والتأويل : تفعيل من الأول ، وهو الرجوع ، يقال : أوله إذا أرجعه ، أي أحسن إرجاعا ، إذا أرجعه المتأمل إلى مراجعه وعواقبه ; لأن الإنسان عند التأمل يكون كالمنتقل بماهية الشيء في مواقع الأحوال من الصلاح ، والفساد فإذا كانت الماهية صلاحا استقر رأي المتأمل على ما فيها من الصلاح ، فكأنه أرجعها بعد التطواف إلى مكانها الصالح بها وهو مقرها ، فأطلق على استقرار الرأي بعد الأمل اسم التأويل على طريقة التمثيل ، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة .
ومعنى كون ذلك أحسن تأويلا : أن النظر إذا جال في منافع التطفيف في الكيل والوزن وفي مضار الإيفاء فيهما ثم عاد فجال في مضار التطفيف ، ومنافع الإيفاء استقر وآل إلى أن الإيفاء بهما خير من التطفيف ; لأن التطفيف يعود على المطفف باقتناء جزء قليل من المال ويكسبه الكراهية ، والذم عند الناس ، وغضب الله ، والسحت في ماله مع احتقار نفسه في نفسه ، والإيفاء بعكس ذلك يكسبه ميل الناس إليه ، ورضى الله عنه ، ورضاه عن نفسه والبركة في ماله .
[ ص: 100 ] فهو أحسن تأويلا ، وتقدم ذكر التأويل بمعانيه في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير .