قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا عود إلى إبطال تعدد الآلهة ; زيادة في استئصال عقائد المشركين من عروقها ، فالجملة استئناف ابتدائي بعد جملة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ، والمخاطب بالأمر بالقول هو النبيء صلى الله عليه وسلم لدمغهم بالحجة المقنعة بفساد قولهم ، وللاهتمام بها افتتحت ب قل ; تخصيصا لهذا بالتبليغ ، وإن كان جميع القرآن مأمورا بتبليغه .
وجملة كما تقولون معترضة للتنبيه على أن تعدد الآلهة لا تحقق له ، وإنما هو مجرد قول عار عن المطابقة لما في نفس الأمر .
وابتغاء السبيل : طلب طريق الوصول إلى الشيء ، أي توخيه والاجتهاد لإصابته ، وهو هنا مجاز في توخي وسيلة الشيء ، وقد جاء في حديث موسى والخضر عليهما السلام أن موسى سأل السبيل إلى لقيا الخضر .
و ( إذن ) دالة على الجواب والجزاء فهي مؤكدة لمعنى الجواب الذي تدل عليه اللام المقترنة بجواب ( لو ) الامتناعية الدالة على امتناع حصول [ ص: 111 ] جوابها لأجل امتناع وقوع شرطها ، وزائدة بأنها تفيد أن الجواب جزاء عن الكلام المجاب ، فالمقصود الاستدلال على انتفاء إلهية الأصنام ، والملائكة الذين جعلوهم آلهة .
وهذا الاستدلال يحتمل معنيين مآلهما واحد : المعنى الأول : أن يكون المراد بالسبيل سبيل السعي إلى الغلبة والقهر ، أي لطلبوا مغالبة ذي العرش وهو الله تعالى ، وهذا كقوله تعالى وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ، ووجه الملازمة التي بني عليها الدليل أن من شأن أهل السلطان في العرف والعادة أن يتطلبوا توسعة سلطانهم ويسعى بعضهم إلى بعض بالغزو ، ويتألبوا على السلطان الأعظم ليسلبوه ملكه أو بعضه ، وقديما ما ثارت الأمراء والسلاطين على ملك الملوك وسلبوه ملكه ، فلو كان مع الله آلهة لسلكوا عادة أمثالهم .
وتمام الدليل محذوف للإيجاز ، يدل عليه ما يستلزمه ابتغاء السبيل على هذا المعنى من التدافع والتغالب اللازمين عرفا لحالة طلب سبيل النزول بالقرية أو الحي لقصد الغزو ، وذلك المفضي إلى اختلال العالم لاشتغال مدبريه بالمقاتلة ، والمدافعة على نحو ما يوجد في ميثلوجيا اليونان من تغالب الأرباب ، وكيد بعضهم لبعض ، فيكون هذا في معنى قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، وهو الدليل المسمى ببرهان التمانع في علم أصول الدين ، فالسبيل على هذا المعنى مجاز عن التمكن والظفر بالمطلوب ، والابتغاء على هذا ابتغاء عن عداوة وكراهة .
وقوله كما تقولون على هذا الوجه تنبيه على خطئهم ، وهو من استعمال الموصول في التنبيه على الخطأ .
والمعنى الثاني : أن يكون المراد بالسبيل سبيل الوصول إلى ذي العرش ، وهو الله تعالى وصول الخضوع والاستعطاف والتقرب ، أي لطلبوا ما يوصلهم إلى مرضاته كقوله يبتغون إلى ربهم الوسيلة .
[ ص: 112 ] ووجه الاستدلال أنكم جعلتموهم آلهة ، وقلتم ما نعبدهم إلا ليكونوا شفعاءنا عند الله ، فلو كانوا آلهة كما وصفتم إلهيتهم لكانوا لا غنى لهم عن الخضوع إلى الله ، وذلك كاف لكم بفساد قولكم ، إذ الإلهية تقتضي عدم الاحتياج ; فكان مآل قولكم إنهم عباد لله مكرمون عنده ، وهذا كاف في تفطنكم لفساد القول بإلهيتهم .
والابتغاء على هذا ابتغاء محبة ورغبة ، كقوله فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ، وقريب من معناه قوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ، فالسبيل على هذا المعنى مجاز عن التوسل إليه والسعي إلى مرضاته .
وقوله كما تقولون على هذا المعنى تفيد للكون في قوله لو كان معه آلهة أي لو كان معه آلهة حال كونهم كما تقولون ، أي كما تصفون إلهيتهم من قولكم هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
واستحضار الذات العلية بوصف ذي العرش دون اسمه العلم لما تتضمنه الإضافة إلى العرش من الشأن الجليل ، الذي هو مثار حسد الآلهة إياه ، وطمعهم في انتزاع ملكه على المعنى الأول ، أو الذي هو مطمع الآلهة الابتغاء من سعة ما عنده على المعنى الثاني .
وقرأ الجمهور كما تقولون بتاء الخطاب على الغالب في حكاية القول المأمور بتبليغه أن يحكى كما يقول المبلغ حين إبلاغه . وقرأه ابن كثير وحفص بياء الغيبة على الوجه الآخر في حكاية القول المأمور بإبلاغه للغير أن يحكى بالمعنى ; لأن في حال خطاب الآمر المأمور بالتبليغ يكون المبلغ له غائبا ، وإنما يصير مخاطبا عند التبليغ ، فإذا لوحظ حاله هذا عبر عنه بطريق الغيبة كما قرئ قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون بالتاء وبالياء أو على قوله كما يقولون اعتراض بين شرط ( لو ) وجوابه .