[ ص: 268 ] فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا تفريع هذه الجملة بالفاء إما على جملة دعائهم ، فيؤذن بأن مضمونها استجابة دعوتهم ، فجعل الله إنامتهم كرامة لهم ، بأن سلمهم من التعذيب بأيدي أعدائهم . وأيد بذلك أنهم على الحق ، وأرى الناس ذلك بعد زمن طويل .
وإما على جملة إذ أوى الفتية إلخ فيؤذن بأن الله عجل لهم حصول ما قصدوه مما لم يكن في حسبانهم .
والضرب هنا بمعنى الوضع ، كما يقال : ضرب عليه حجابا ، ومنه قوله تعالى ضربت عليهم الذلة ، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما .
وحذف مفعول " ضربنا " لظهوره ، أي ضربنا على آذانهم غشاوة أو حائلا عن السمع ، كما يقال : بنى على امرأته ، تقديره : بنى بيتا ، والضرب على الآذان كناية عن الإنامة ; لأن النوم الثقيل يستلزم عدم السمع ; لأن السمع السليم لا يحجبه إلا النوم ، بخلاف البصر الصحيح ، فقد يحجب بتغميض الأجفان .
وهذه الكناية من خصائص القرآن ، لم تكن معروفة قبل هذه الآية ، وهي من الإعجاز .
و " عددا " نعت " سنين " ، والعدد : مستعمل في الكثرة ، أي : سنين ذات عدد كثير ، ونظيره ما في حديث بدء الوحي من عائشة : فكان يخرج إلى غار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد . تريد الكثيرة ، وقد أجمل العدد هنا تبعا لإجمال القصة . قول
[ ص: 269 ] والبعث هنا الإيقاظ ، أي أيقظناهم من نومتهم يقظة مفزوع ، كما يبعث البعير من مبركه . وحسن هذه الاستعارة هنا أن المقصود من هذه القصة إثبات البعث بعد الموت ، فكان في ذكر لفظ البعث تنبيه على أن في هذه الإفاقة دليلا على إمكان البعث وكيفيته .
والحزب : الجماعة الذين توافقوا على شيء واحد ، فالحزبان فريقان : أحدهما مصيب ، والآخر مخطئ في عد الأمد الذي مضى عليهم ، فقيل : هما فريقان من أهل الكهف أنفسهم على أنه المشار إليه بقوله تعالى قال قائل منهم كم لبثتم ، وفي هذا بعد من لفظ ( حزب ) ، إذ كان القائل واحدا والآخرون شاكين ، وبعيد أيضا من فعل " أحصى " ; لأن أهل الكهف ما قصدوا الإحصاء لمدة لبثهم عند إفاقتهم ، بل خالوها زمنا قليلا ، فالوجه : أن المراد بالحزبين حزبان من الناس أهل بلدهم ، اختلفت أقوالهم في مدة لبثهم بعد أن علموا انبعاثهم من نومتهم : أحد الفريقين مصيب ، والآخر مخطئ ، والله يعلم المصيب منهم والمخطئ ، فهما فريقان في جانبي صواب وخطأ كما دل عليه قوله أحصى .
ولا ينبغي تفسير الحزبين بأنهما حزبان من أهل الكهف الذين قال الله فيهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم الآية .
وجعل حصول علم الله بحال الحزبين علة لبعثه إياهم - كناية عن حصول الاختلاف في تقدير مدتهم ، فإنهم إذا اختلفوا علم الله اختلافهم علم الواقعات ، وهو تعلق للعلم يصح أن يطلق عليه : تنجيزي ، وإن لم يقع ذلك عند علماء الكلام .
وقد تقدم عند قوله تعالى لنبلوهم أيهم أحسن عملا في أول السورة .
و " أحصى " يحتمل أن يكون فعلا ماضيا ، وأن يكون اسم تفضيل مصوغا من الرباعي على خلاف القياس ، واختار في الكشاف تبعا الزمخشري لأبي علي الفارسي الأول ; تجنبا لصوغ اسم التفضيل على غير قياس لقلته ، واختار [ ص: 270 ] الثاني ، ومع كون صوغ اسم التفضيل من غير الثلاثي ليس قياسا فهو كثير في الكلام الفصيح ، وفي القرآن . الزجاج
فالوجه ، أن " أحصى " اسم تفضيل ، والتفضيل منصرف إلى ما في معنى الإحصاء من الضبط والإصابة ، والمعنى : لنعلم أي الحزبين أتقن إحصاء ؛ أي عدا ، بأن يكون هو الموافق للواقع ونفس الأمر ، ويكون ما عداه تقريبا ورجما بالغيب ، وذلك هو ما فصله قوله تعالى سيقولون ثلاثة الآية .
فـ ( أي ) اسم استفهام مبتدأ ، وهو معلق لفعل " لنعلم " عن العمل ، و " أحصى " خبر عن " أي " و " أمدا " تمييز لاسم التفضيل تمييز نسبة ، أي نسبة التفضيل إلى موصوفه كما في قوله أنا أكثر منك مالا ، ولا يريبك أنه لا يتضح أن يكون هذا التمييز محولا عن الفاعل ; لأنه لا يستقيم أن تقول : أفضل أمده ، إذ التحويل أمر تقديري يقصد منه التقريب .
والمعنى : ليظهر اضطراب الناس في ضبط تواريخ الحوادث واختلال حرصهم ، وتخمينهم إذا تصدوا لها ، ويعلم تفريط كثير من الناس في تحديد الحوادث ، وتاريخها ، وكلا الحالين يمت إلى الآخر بصلة .