إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم .
عطف على جملة ولقد صرفنا في هذا القرآن إلخ ، ومعناها متصل تمام الاتصال بمعنى الجملة التي قبلها ، بحيث لو عطفت عليها بفاء التفريع لكان ذلك مقتضى الظاهر ، وتعتبر جملة وكان الإنسان أكثر شيء جدلا معترضة بينهما ، لولا أن في جعل هذه الجملة مستقلة بالعطف اهتماما بمضمونها في ذاته ، بحيث يعد تفريعه على مضمون التي قبلها يحيد به عن الموقع الجدير هو به في نفوس السامعين إذ أريد أن يكون حقيقة مقررة في النفوس ، ولهذه الخصوصية فيما أرى عدل في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله وما منع الناس وبقوله إذ جاءهم الهدى دون أن يقول : وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ; قصدا لاستقلال الجملة بذاتها غير مستعانة بغيرها ، فتكون فائدة مستقلة تستأهل توجه العقول إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرع على غيرها .
على أن عموم الناس هنا أشمل من عموم لفظ الناس في قوله ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس فإن ذلك يعم الناس الذين يسمعون القرآن في أزمان ما بعد نزول تلك الآية ، وهذا يعم الناس كلهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله .
وكذلك عموم لفظ الهدى يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال الأنبياء كلها ، فكانت هذه الجملة قياسا تمثيليا بشواهد التاريخ وأحوال تلقي الأمم دعوات رسلهم .
[ ص: 350 ] فالمعنى : ما منع هؤلاء المشركين من الإيمان بالقرآن شيء يمنع مثله ، ولكنهم كالأمم الذين قبلهم الذين جاءهم الهدى بأنواعه من كتب ، وآيات ، وإرشاد إلى الخير .
والمراد بـ " الأولين " السابقون من الأمم في الضلال والعناد ، ويجوز أن يراد بهم الآباء ، أي سنة آبائهم ، أي طريقتهم ودينهم ، ولكل أمة أمة سبقتها .
و " أن تأتيهم " استثناء مفرغ ، هو فاعل " ما منع " ، " أن يؤمنوا " منصوب على نزع الخافض ، أي من أن يؤمنوا .
ومعنى تأتيهم سنة الأولين تحل فيهم وتعتريهم ، أي تلقى في نفوسهم وتسول إليهم ، والمعنى : أنهم يشبهون خلق من كانوا قبلهم من أهل الضلال ويقلدونهم ، كما قال تعالى أتواصوا به بل هم قوم طاغون .
وسنة الأولين : طريقتهم في الكفر ، وإضافة " سنة " إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله ، أي السنة التي سنها الأولون ، وإسناد منعهم من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين استعارة .
والمعنى : ما منع الناس أن يؤمنوا إلا الذي منع الأولين قبلهم من عادة العناد والطغيان وطريقتهم في تكذيب الرسل والاستخفاف بهم .
وذكر الاستغفار هنا بعد ذكر الإيمان تلقين إياهم بأن يبادروا بالإقلاع عن الكفر ، وأن يتوبوا إلى الله من تكذيب النبيء ومكابرته .
و ( أو ) هي التي بمعنى ( إلى ) ، وانتصاب فعل " يأتيهم العذاب " بـ ( أن ) مضمرة بعد ( أو ) ، و ( أو ) متصلة المعنى بفعل " منع " ، أي منعهم تقليد سنة الأولين من الإيمان إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الأولين .
هذا ما بدا لي في تفسير هذه الآية ، وأراه أليق بموقع هاته الآية من التي قبلها .
[ ص: 351 ] فأما جميع المفسرين فقد تأولوا الآية على خلاف هذا على كلمة واحدة ، فجعلوا المراد بالناس عين المراد بهم في قوله ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل ، أي ما منع المشركين من الإيمان بالله ورسوله ، وجعلوا المراد بالهدى عين المراد بالقرآن ، وحملوا سنة الأولين على معنى سنة الله في الأولين ، أي الأمم المكذبين الماضين ، أي : فإضافة ( سنة ) إلى ( الأولين ) مثل إضافة المصدر إلى مفعوله ، وهي عادة الله فيهم ، أي يعذبهم عذاب الاستئصال .
وجعلوا إسناد المنع من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين ، بتقدير مضاف ، أي انتظار أن تأتيهم سنة الله في الأولين ، أي : ويكون الكلام تهكما وتعريضا بالتهديد بحلول العذاب بالمشركين ، أي لا يؤمنون إلا عند نزول عذاب الاستئصال ، أي على معنى قوله تعالى فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا .
وجعلوا قوله أو يأتيهم العذاب قبلا قسيما لقوله إلا أن تأتيهم سنة الأولين ، فحرف ( أو ) للتقسيم ، وفعل " يأتيهم " منصوب بالعطف على فعل أن تأتيهم سنة الأولين بالاستئصال المفاجئ ، أو يأتيهم العذاب مواجها لهم ، وجعلوا قبلا حالا من العذاب ، أي مقابلا ، قال الكلبي : وهو عذاب السيف يوم بدر ، ولعله يريد أنه عذاب مقابلة وجها لوجه ، أي عذاب الجلاد بالسيوف ، ومعناه : أن المشركين منهم من ذاق عذاب السيف في غزوات المسلمين ، ومنهم من مات فهو يرى عذاب الآخرة ، وعلى هذا التفسير الذي سلكوه ينسلخ من الآية معنى التذييل ، وتقصر على معنى التهديد .
والإتيان : مجاز في الحصول في المستقبل ، لوجود ( أن ) المصدرية التي تخلص المضارع للاستقبال ، وهو استقبال نسبي فلكل أمة استقبال سنة من قبلها .
والسنة : العادة المألوفة في حال من الأحوال .
وإسناد منعهم الإيمان إلى إتيان سنة الأولين أو إتيان العذاب إسناد مجاز عقلي ، والمراد : ما منعهم إلا سبب إتيان سنة الأولين لهم أو إتيان العذاب ، وسبب ذلك [ ص: 352 ] هو التكبر والمكابرة والتمسك بالضلال ، أي أنه لا يوجد مانع يمنعهم الإيمان يخولهم المعذرة به ، ولكنهم جروا على سنن من قبلهم من الضلال ، وهذا كناية عن انتفاء إيمانهم إلى أن يحل بهم أحد العذابين .
وفي هذه الكناية تهديد ، وإنذار ، وتحذير ، وحث على المبادرة بالاستغفار من الكفر ، وهو في معنى قوله تعالى ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) .
و ( قبلا ) حال من العذاب ، وهو بكسر القاف وفتح الباء ، في قراءة الجمهور بمعنى المقابل الظاهر ، وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف " قبلا " بضمتين وهو جمع قبيل ، أي يأتيهم العذاب أنواعا .