" قال ذلك " إلخ جواب عن كلامه ، ولذلك فصلت كما بيناه غير مرة .
والإشارة بـ " ذلك " إلى ما تضمنه خبر الفتى من فقد الحوت ، ومعنى كونه المبتغى أنه وسيلة المبتغى ، وإنما المبتغى هو لقاء العبد الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت .
وكتب " نبغ " في المصحف بدون ياء في آخره ، فقيل : أراد الكاتبون مراعاة حالة الوقف ; لأن الأحسن في الوقف على ياء المنقوص أن يوقف بحذفها ، وقيل : أرادوا التنبيه على أنها رويت محذوفة في هذه الآية ، والعرب يميلون إلى التخفيف ، فقرأ نافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو جعفر بحذف الياء في الوقف وإثباتها في الوصل ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، وابن عامر بحذف الياء في الوصل والوقف ، وقرأ ابن كثير ، ويعقوب بإثباتها في الحالين ، والنون نون المتكلم المشارك ، أي ما أبغيه أنا وأنت ، وكلاهما يبغي ملاقاة العبد الصالح .
والارتداد : مطاوع الرد كأن رادا ردهما ، وإنما ردتهما إرادتهما ، أي رجعا على آثار سيرهما ، أي رجعا على طريقهما الذي أتيا منه .
[ ص: 369 ] والقصص : مصدر قص الأثر ، إذا توخى متابعته كيلا يخطئا الطريق الأول .
والمراد بالعبد : الخضر ، ووصف بأنه من عباد الله ; تشريفا له ، كما تقدم عند قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده .
وعدل عن الإضافة إلى التنكير والصفة ; لأنه لم يسبق ما يقتضي تعريفه ، وللإشارة إلى أن هذا الحال الغريب العظيم الذي ذكر من قصته ما هو إلا من أحوال عباد كثيرين لله تعالى ، وما منهم إلا له مقام معلوم .
وإيتاء الرحمة يجوز أن يكون معناه : أنه جعل مرحوما ، وذلك بأن رفق الله به في أحواله ، ويجوز أن يكون جعلناه سبب رحمة بأن صرفه تصرفا يجلب الرحمة العامة ، والعلم من لدن الله : هو الإعلام بطريق الوحي .
و ( عند ) و ( لدن ) كلاهما حقيقته اسم مكان قريب ، ويستعملان مجازا في اختصاص المضاف إليه بموصوفهما .
و ( من ) ابتدائية ، أي آتيناه رحمة صدرت من مكان القرب ، أي الشرف ، وهو قرب تشريف بالانتساب إلى الله ، وعلما صدر منه أيضا ، وذلك أن ما أوتيه من الولاية أو النبوءة رحمة عزيزة ، أو ما أوتيه من العلم عزيز ، فكأنهما مما يدخر عند الله في مكان القرب التشريفي من الله فلا يعطى إلا للمصطفين .
والمخالفة بين " من عندنا " وبين " من لدنا " للتفنن تفاديا من إعادة الكلمة ، وجملة " فقال له موسى " ابتداء محاورة ، فهو استئناف ابتدائي ، ولذلك لم يقع التعبير بـ ( قال ) مجردة عن العاطف .
والاستفهام في قوله " هل أتبعك " مستعمل في العرض بقرينة أنه استفهام عن عمل نفس المستفهم ، والاتباع : مجاز في المصاحبة كقوله تعالى إن يتبعون إلا الظن .
[ ص: 370 ] و ( على ) مستعملة في معنى الاشتراط ; لأنه استعلاء مجازي ، جعل الاتباع كأنه مستعمل فوق التعليم ; لشدة المقارنة بينهما ، فصيغة : أفعل كذا على كذا ، من صيغ الالتزام والتعاقد .
ويؤخذ من الآية جواز ، كما في حديث تزويج المرأة التي عرضت نفسها على النبيء صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها ، فزوجها من رغب فيها على أن يعلمها ما معه من القرآن . التعاقد على تعليم القرآن والعلم
وفيه أنه التزام يجب الوفاء به ، وقد تفرع عن حكم لزوم الالتزام أن العرف فيه يقوم مقام الاشتراط ، فيجب على أن يعامل المتعلمين بما جرى عليه عرف أقاليمهم . المنتصب للتعليم
وذكر عياض في باب صفة مجلس مالك للعلم من كتاب المدارك : أن رجلا خراسانيا جاء من خراسان إلى المدينة للسماع من مالك فوجد الناس يعرضون عليه وهو يسمع ، ولا يسمعون قراءة منه عليهم ، فسأله أن يقرأ عليهم فأبى مالك ، فاستدعى الخراساني قاضي المدينة ، وقال : جئت من خراسان ونحن لا نرى العرض وأبى مالك أن يقرأ علينا ، فحكم القاضي على مالك : أن يقرأ له ، فقيل لمالك : أأصاب القاضي الحق ؟ قال : نعم .
وفيه أيضا إشارة إلى أن حق المعلم على المتعلم اتباعه والاقتداء به .
وانتصب " رشدا " على المفعولية لـ " تعلمني " أي ما به الرشد ، أي الخير .
وهذا العلم الذي سأل موسى تعلمه هو من العلم النافع الذي لا يتعلق بالتشريع للأمة الإسرائيلية ، فإن موسى مستغن في علم التشريع عن الازدياد إلا من وحي الله إليه مباشرة ; لأنه لذلك أرسله ، وما عدا ذلك لا تقتضي الرسالة علمه ، ، ورجع يوم وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم في قصة الذين وجدهم يأبرون النخل - أنتم أعلم بأمور دنياكم بدر إلى قول المنذر بن الحارث في أن المنزل الذي نزله جيش المسلمين ببدر أول مرة ليس الأليق بالحرب .
[ ص: 371 ] وإنما رام موسى أن يعلم شيئا من الخضر ; لأن الازدياد من العلوم النافعة هو من الخير ، وقد قال الله تعالى تعليما لنبيه العلم الذي خص الله به وقل رب زدني علما ، وهذا العلم الذي أوتيه الخضر هو علم سياسة خاصة ، غير عامة تتعلق بمعينين ; لجلب مصلحة ، أو دفع مفسدة بحسب ما تهيئه الحوادث والأكوان ، لا بحسب ما يناسب المصلحة العامة ، فلعل الله يسره لنفع معينين من عنده ، كما جعل محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة عامة لكافة الناس ، ومن هنا فارق سياسة التشريع العامة ، ونظيره معرفة النبيء صلى الله عليه وسلم أحوال بعض المشركين والمنافقين ، وتحققه أن أولئك المشركين لا يؤمنون وهو مع ذلك يدعوهم دوما إلى الإيمان ، وتحققه أن أولئك المنافقين غير مؤمنين وهو يعاملهم معاملة المؤمنين ، وكان يعرفهم بأعيانهم بإخبار النبيء صلى الله عليه وسلم إياه بهم . حذيفة بن اليمان
وقرأ الجمهور " رشدا " بضم الراء وسكون الشين ، وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب بفتح الراء وفتح الشين مثل اللفظين السابقين ، وهما لغتان كما تقدم .
وأكد جملة " إنك لن تستطيع معي صبرا " بحرف ( إن ) وبحرف ( لن ) تحقيقا لمضمونها من توقع ضيق ذرع موسى عن قبول ما يبديه إليه ; لأنه علم أنه تصدر منه أفعال ظاهرها المنكر ، وباطنها المعروف ، ولما كان موسى عليه السلام من الأنبياء الذين أقامهم الله لإجراء الأحكام على الظاهر علم أنه سينكر ما يشاهده من تصرفاته ; لاختلاف المشربين ; لأن الأنبياء لا يقرون المنكر .
وهذا تحذير منه لموسى ، وتنبيه على ما يستقبله منه حتى يقدم على متابعته - إن شاء - على بصيرة وعلى غير اغترار ، وليس المقصود منه الإخبار ، فمناط التأكيدات في جملة " إنك لن تستطيع معي صبرا " إنما هو تحقيق خطورة أعماله وغرابتها في المتعارف بحيث لا تتحمل ، ولو كان خبرا على أصله لم يقبل فيه المراجعة ، ولم يجبه موسى بقوله ستجدني إن شاء الله صابرا .
[ ص: 372 ] وفي هذا أصل من أن ينبه المعلم المتعلم بعوارض موضوعات العلوم الملقنة ، لاسيما إذا كانت في معالجتها مشقة . أصول التعليم
وزادها تأكيدا عموم الصبر المنفي ; لوقوعه نكرة في سياق النفي ، وأن المنفي استطاعته الصبر المفيد أنه لو تجشم أن يصبر لم يستطع ذلك ، فأفاد هذا التركيب نفي حصول الصبر منه في المستقبل على آكد وجه .
وزيادة " معي " إيماء إلى أنه يجد من أعماله ما لا يجد مثله مع غيره ، فانتفاء الصبر على أعماله أجدر .
وجملة وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا في موضع الحال من اسم ( إن ) أو من ضمير " تستطيع " ، فالواو واو الحال ، وليست واو العطف ; لأن شأن هذه الجملة أن لا تعطف على التي قبلها ; لأن بينهما كمال الاتصال ; إذ الثانية كالعلة للأولى ، وإنما أوثر مجيئها في صورة الجملة الحالية ، دون أن تفصل عن الجملة الأولى فتقع علة مع أن التعليل هو المراد ; للتنبيه على أن مضمونها علة ملازمة لمضمون التي قبلها إذ هي حال من المسند إليه في الجملة قبلها .
و ( كيف ) للاستفهام الإنكاري في معنى النفي ، أي : وأنت لا تصبر على ما لم تحط به خبرا .
والخبر بضم الخاء وسكون الباء : العلم ، وهو منصوب على أنه تمييز لنسبة الإحاطة في قوله " ما لم تحط به " أي إحاطة من حيث العلم .
والإحاطة : مجاز في التمكن ، تشبيها لقوة تمكن الاتصاف بتمكن الجسم المحيط بما أحاط به .
وقوله ستجدني إن شاء الله صابرا أبلغ في ثبوت الصبر من نحو : سأصبر ; لأنه يدل على حصول صبر ظاهر لرفيقه ومتبوعه ، وظاهر أن متعلق الصبر هنا هو الصبر على ما من شأنه أن يثير الجزع أو الضجر من تعب في [ ص: 373 ] المتابعة ، ومن مشاهدة ما لا يتحمله إدراكه ، ومن ترقب بيان الأسباب والعلل والمقاصد .
ولما كان هذا الصبر الكامل يقتضي طاعة الآمر فيما يأمره به ; عطف عليه ما يفيد الطاعة ; إبلاغا في الاتسام بأكمل أحوال طالب العلم .
فجملة ولا أعصي لك أمرا معطوفة على جملة ستجدني ، أو هو من عطف الفعل على الاسم المشتق عطفا على " صابرا " فيئول بمصدر ، أي وغير عاص ، وفي هذا دليل على أن هو الصبر والطاعة للمعلم . أهم ما يتسم به طالب العلم
وفي تأكيده ذلك بالتعليق على مشيئة الله - استعانة به ، وحرصا على تقدم التيسير ; تأدبا مع الله - إيذان بأن الصبر والطاعة من المتعلم الذي له شيء من العلم أعسر من صبر وطاعة المتعلم الساذج ; لأن خلو ذهنه من العلم لا يخرجه من مشاهدة الغرائب ، إذ ليس في ذهنه من المعارف ما يعارض قبولها ، فالمتعلم الذي له نصيب من العلم ، وجاء طالبا الكمال في علومه إذا بدا له من علوم أستاذه ما يخالف ما تقرر في علمه يبادر إلى الاعتراض والمنازعة ، وذلك قد يثير النفرة بينه وبين أستاذه ، فلتجنب ذلك خشي الخضر أن يلقى من موسى هذه المعاملة فقال له إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ، فأكد له موسى أنه يصبر ويطيع أمره إذا أمره ، والتزام موسى ذلك مبني على ثقته بعصمة متبوعه ; لأن الله أخبره بأنه آتاه علما .
والفاء في قوله فإن اتبعتني تفريع على وعد موسى إياه بأنه يجده صابرا ، ففرع على ذلك نهيه عن السؤال عن شيء مما يشاهده من تصرفاته حتى يبينه له من تلقاء نفسه .
وأكد النهي بحرف التوكيد ; تحقيقا لحصول أكمل أحوال المتعلم مع المعلم ; لأن السؤال قد يصادف وقت اشتغال المسئول بإكمال عمله فتضيق له نفسه ، [ ص: 374 ] فربما كان الجواب عنه بدون شره نفس ، وربما خالطه بعض القلق فيكون الجواب غير شاف ، فأراد الخضر أن يتولى هو بيان أعماله في الإبان الذي يراه مناسبا ; ليكون البيان أبسط ، والإقبال أبهج ; فيزيد الاتصال بين القرينين .
والذكر هنا : ذكر اللسان ، وتقدم عند قوله تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي في سورة البقرة ، أعني بيان العلل والتوجيهات ، وكشف الغوامض .
وإحداث الذكر : إنشاؤه وإبرازه ، كقول : ذي الرمة
أحدثنا لخالقها شكرا
وقرأ نافع ( فلا تسألني ) بالهمز ، وبفتح اللام ، وتشديد النون على أنه مضارع ( سأل ) المهموز مقترنا بنون التوكيد الخفيفة المدغمة في نون الوقاية ، وبإثبات ياء المتكلم .وقرأ ابن عامر مثله ، لكن بحذف ياء المتكلم ، وقرأ البقية " تسألني " بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون ، وأثبتوا ياء المتكلم .