عطف لنبلونكم على قوله استعينوا بالصبر والصلاة عطف المقصد على المقدمة كما أشرنا إليه قبل ، ولك أن تجعل قوله ولنبلونكم عطفا على قوله ولأتم نعمتي عليكم الآيات ليعلم المسلمين أن تمام النعمة ومنزلة الكرامة عند الله لا يحول بينهم وبين لحاق المصائب الدنيوية المرتبطة بأسبابها ، وأن تلك المصائب مظهر لثباتهم على الإيمان ومحبة الله تعالى والتسليم لقضائه فينالون بذلك بهجة نفوسهم بما أصابهم في مرضاة الله ويزدادون به رفعة وزكاء ، ويزدادون يقينا بأن اتباعهم لهذا الدين لم يكن لنوال حظوظ في الدنيا ، وينجر لهم من ذلك ثواب ، ولذلك جاء بعده وبشر الصابرين وجعل قوله يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة الآية بين هذين المتعاطفين ليكون نصيحة لعلاج الأمرين تمام النعمة والهدى والابتلاء ، ثم أعيد عليه ما يصير الجميع خبرا بقوله وبشر الصابرين .
وجيء بكلمة شيء تهوينا للخبر المفجع ، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة ، كما في قوله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولذلك جاء هنا بكلمة شيء وجاء هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن ، وهو أن استعار لها اللباس اللازم للابس ، لأن كلمة " شيء " من أسماء الأجناس [ ص: 55 ] العالية العامة ، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بينت به علم أن المتكلم ما زاد كلمة شيء قبل اسم ذلك الجنس إلا لقصد التقليل لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غناءها ، فما ذكر كلمة شيء إلا والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم ولا للتنويع ، فبقي له الدلالة على التحقير وهذا كقول السري مخاطبا لأبي إسحاق الصابي :
فشيئا من دم العنقو د أجعله مكان دمي
فقول الله تعالى ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع عدول عن أن يقول : بخوف وجوع ، أما لو ذكر لفظ شيء مع غير اسم جنس كما إذا أتبع بوصف أو لم يتبع أو أضيف لغير اسم جنس فهو حينئذ يدل على مطلق التنويع نحو قول قحيط العجلي :فلا تطمع أبيت اللعن فيها ومنعكها بشيء يستطاع
ومن مالئ عينيه من شيء غيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وقول أبى حية النميري :
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا
[ ص: 56 ] وكأن مراعاة هذين الاستعمالين في كلمة " شيء " هو الذي دعا في دلائل الإعجاز إلى الحكم بحسن وقع كلمة شيء في بيت الشيخ عبد القاهر ابن أبي ربيعة وبيت أبي حية النميري ، وبقلتها وتضاؤلها في قول أبي الطيب :
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه لعوقه شيء عن الدوران
والمراد بالخوف والجوع وما عطف عليهما معانيها المتبادرة وهي ما أصاب المسلمين من القلة وتألب المشركين عليهم بعد الهجرة ، كما وقع في يوم الأحزاب إذ جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وأما الجوع فكما أصابهم من قلة الأزواد في بعض الغزوات ، ونقص الأموال ما ينشأ عن قلة العناية بنخيلهم في خروجهم إلى الغزو ، ونقص الأنفس يكون بقلة الولادة لبعدهم عن نسائهم كما قال النابغة :
شعب العلافيات بين فروجهم والمحصنات عوازب الأطهار
أفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي المجد رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا
والكلام على الأموال يأتي عند قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل في هذه السورة ، وعند قوله إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم في سورة آل عمران .