وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى الذي جعل لكم الأرض مهادا كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى .
هذه جمل ثلاث معترضة في أثناء قصة موسى .
فالجملة الأولى منها مستأنفة ابتدائية على عادة القرآن من تفنن لأغراض لتجديد نشاط الأذهان . ولا يحتمل أن تكون من كلام موسى إذ لا يناسب ذلك تفريع قوله ( فأخرجنا به أزواجا ) . فقوله [ ص: 236 ] ( الذي جعل لكم الأرض مهادا ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي هو الذي جعل لكم الأرض مهادا ، والضمير عائد إلى الرب المفهوم من ( ربي ) ، أي هو رب موسى .
وتعريف جزأي الجملة يفيد الحصر ، أي الجاعل الأرض مهادا فكيف تعبدون غيره . وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنه تذكير بالنعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقا بالإلهية .
وقرأ الجمهور ( مهادا ) بكسر الميم ، وهو اسم بمعنى الممهود مثل الفراش واللباس . ويجوز أن يكون جمع مهد ، وهو اسم لما يمهد للصبي ، أي يوضع عليه ويحمل فيه ، فيكون بوزن كعاب جمعا لكعب . ومعنى الجمع على اعتبار كثرة البقاع .
وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ( مهدا ) بفتح الميم وسكون الهاء ، أي كالمهد الذي يمهد للصبي ، وهو اسم بمصدر مهده ، على أن المصدر بمعنى المفعول ك ( الخلق ) بمعنى ( المخلوق ) ، ثم شاع ذلك فصار اسما لما يمهد .
ومعنى القراءتين واحد ، أي جعل الأرض ممهودة مسهلة للسير والجلوس والاضطجاع بحيث لا نتوء فيها إلا نادرا يمكن تجنبه ، كقوله ( والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا )
و ( سلك ) فعل مشتق من السلوك والسلك الذي هو الدخول مجتازا وقاطعا في السير في الطريق تشبيها للسائر بالشيء الداخل في شيء آخر . يقال : سلك طريقا . فحق هذا الفعل أن يتعدى إلى مفعول واحد وهو المدخول فيه ، ويستعمل متعديا بمعنى أسلك . وحقه أن يكون تعديه بهمزة التعدية فيقال : أسلك المسمار في اللوح ، أي جعله سالكا [ ص: 237 ] إياه ، إلا أنه كثر في الكلام تجريده من الهمزة كقوله تعالى ( نسلكه عذابا صعدا ) . وكثر كون الاسم الذي كان مفعولا ثانيا يصير مجرورا ب ( في ) كقوله تعالى ( ما سلككم في سقر ) بمعنى أسلككم سقر . وقوله ( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ) في سورة الشعراء . وقوله ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ) في سورة الزمر . وقال الأعشى :
كما سلك السكي في الباب فيتق
أي أدخل المسمار في الباب نجار ، فصار فعل سلك يستعمل قاصرا ومتعديا .
فأما قوله هنا ( وسلك لكم فيها سبلا ) فهو سلك المتعدي ، أي أسلك فيها سبلا ، أي جعل سبلا سالكة في الأرض ، أي داخلة فيها ، أي متخللة . وذلك كناية عن كثرتها في جهات الأرض .
والمراد بالسبل : كل سبيل يمكن السير فيه سواء كان من أصل خلقة الأرض كالسهول والرمال ، أو كان من أثر فعل الناس مثل الثنايا التي تكرر السير فيها فتعبدت وصارت طرقا يتابع الناس السير فيها .
ولما ذكر منة خلق الأرض شفعها بمنة إخراج النبات منها بما ينزل عليها من السماء من ماء . وتلك منة تنبئ عن خلق السماوات حيث أجرى ذكرها لقصد ذلك التذكير ، ولذا لم يقل : وصببنا الماء على الأرض ، كما في آية ( أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا ) . وهذا إدماج بليغ .
والعدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله فأخرجنا التفات . وحسنه هنا أنه بعد أن حج المشركين بحجة انفراده بخلق الأرض وتسخير السماء مما لا سبيل بهم إلى نكرانه ارتقى [ ص: 238 ] إلى صيغة المتكلم المطاع فإن الذي خلق الأرض وسخر السماء حقيق بأن تطيعه القوى والعناصر ، فهو يخرج النبات من الأرض بسبب ماء السماء ، فكان تسخير النبات أثرا لتسخير أصل تكوينه من ماء السماء وتراب الأرض .
ولملاحظة هذه النكتة تكرر في القرآن مثل هذا الالتفات عند ذكر الإنبات كما في قوله تعالى ( وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ) ، وقوله ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ) ، وقوله ( أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ) ، ومنها قوله في سورة الزخرف ( والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا ) . وقد نبه إلى ذلك في الكشاف ، ولله دره . ونظائره كثيرة في القرآن .
والأزواج : جمع زوج . أنه اسم لكل فرد من اثنين من صنف واحد . فكل أحد منهما هو زوج باعتبار الآخر ، لأنه يصير بسبق الفرد الأول إياه زوجا . ثم غلب على الذكر والأنثى المقترنين من نوع الإنسان أو من الحيوان ، قال تعالى ( وحقيقة الزوج فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) ، وقال ( فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ) وقال ( اسكن أنت وزوجك الجنة ) . ولما شاعت فيه ملاحظة معنى اتحاد النوع تطرقوا من ذلك إلى استعمال لفظ الزوج في معنى النوع بغير قيد كونه ثانيا لآخر ، على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق ، قال تعالى ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ) ، ومنه قوله ( فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ) . وفي الحديث . . . الحديث ، أي من أنفق نوعين مثل الطعام [ ص: 239 ] والكسوة ، ومثل الخيل والرواحل . وهذا الإطلاق هو المراد هنا . أي فأنبتنا به أنواعا من نبات . وتقدم في سورة الرعد . من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة
والنبات : مصدر سمي به النابت ، فلكونه مصدرا في الأصل استوى فيه الواحد والجمع .
وشتى : جمع شتيت بوزن فعلى ، مثل : مريض ومرضى .
والشتيت : المشتت ، أي المبعد . وأريد به هنا التباعد في الصفات من الشكل واللون والطعم ، وبعضها صالح للإنسان وبعضها للحيوان .
والجملة الثانية ( كلوا وارعوا أنعامكم ) مقول قول محذوف هو حال من ضمير فأخرجنا . والتقدير : قائلين : كلوا وارعوا أنعامكم . والأمر للإباحة مراد به المنة . والتقدير : كلوا منها وارعوا أنعامكم منها . وهذا من مقابلة الجمع بالجمع لقصد التوزيع .
وفعل رعى يستعمل قاصرا ومتعديا . يقال : رعت الدابة ورعاها صاحبها . وفرق بينهما في المصدر فمصدر القاصر : الرعي ، ومصدر المتعدي : الرعاية . ومنه قول النابغة : رأيتك ترعاني بعين بصيرة
والجملة الثالثة ( إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) معترضة مؤكدة للاستدلال ؛ فبعد أن أشير إلى ما في المخلوقات المذكورة آنفا من ، والمنة بها على الإنسان لمن تأمل ، جمعت في هذه الجملة وصرح بما في جميعها من الآيات الكثيرة . وكل من الاعتراض والتوكيد مقتض لفصل الجملة ، وتأكيد الخبر بحرف ( إن ) لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين ، لأنهم لم ينظروا في دلالة تلك المخلوقات على وحدانية الله ، وهم يحسبون [ ص: 240 ] أنفسهم من أولي النهى ، فما كان عدم اهتدائهم بتلك الآيات إلا لأنهم لم يعدوها آيات . لا جرم أن ذلك المذكور مشتمل على آيات جمة يتفطن لها ذوو العقول بالتأمل والتفكر ، وينتبهون لها بالتذكير . الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته
والنهى : اسم ، جمع نهية - بضم النون وسكون الهاء - ، أي العقل ، سمي نهية ؛ لأنه سبب انتهاء المتحلي به عن كثير من الأعمال المفسدة والمهلكة ، ولذلك أيضا سمي بالعقل وسمي بالحجر .