عطف على قوله ومن الناس من يتخذ وذلك أن قوله ذلك لما كان شرحا لحال ضلالهم الفظيع في الدنيا من اتخاذ الأنداد لله مع ظهور أدلة وحدانيته ، حتى كان قوله ومن الناس مؤذنا بالتعجيب من حالهم كما قدمنا ، وزيد في شناعته أنهم اتخذوا لله أندادا وأحبوها كحبه ، ناسب أن ينتقل من ذلك ، أي ذكر عاقبتهم من هذا الصنيع ووصف فظاعة حالهم في الآخرة كما فظع حالهم في الدنيا .
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب ) ولو ترى ( بتاء فوقية وهو خطاب لغير معين يعم كل من يسمع هذا الخطاب ، وذلك لتناهي حالهم في الفظاعة والسوء ، حتى لو حضرها الناس لظهرت لجميعهم ، ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم فالذين ظلموا مفعول ترى على المعنيين ، وإذ ظرف زمان ، والرؤية بصرية في الأول والثاني لتعلقها في الموضعين بالمرئيات ، ولأن ذلك مورد المعنى ، إلا أن وقت الرؤيتين مختلف ، إذ المعنى : لو تراهم الآن حين يرون العذاب يوم القيامة ، أي لو ترى الآن حالهم ، وقرأ الجمهور يرى الذين ظلموا بالتحتية ، فيكون الذين ظلموا فاعل يرى والمعنى أيضا لو يرون الآن ، وحذف مفعول يرى لدلالة المقام ، وتقديره : لو يرون عذابهم أو لو يرون أنفسهم أو يكون إذ اسما غير ظرف ; أي لو ينظرون الآن ذلك الوقت فيكون بدل اشتمال من الذين ظلموا
والذين ظلموا هم الذين اتخذوا من دون الله أندادا ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار ليكون [ ص: 94 ] شاملا لهؤلاء المشركين وغيرهم ، وجعل اتخاذهم الأنداد ظلما لأنه اعتداء على عدة حقوق . فقد اعتدوا على حق الله تعالى من وجوب توحيده ، واعتدوا على من جعلوهم أندادا لله على العقلاء منهم مثل الملائكةوعيسى ، ومثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، فقد ورد في الصحيح عن : أنهم كانوا رجالا صالحين من قوم ابن عباس نوح فلما ماتوا اتخذ قومهم لهم تماثيل ثم عبدوها ، ومثل اللات يزعم العرب أنه رجل كان يلت السويق للحجيج وأن أصله اللات بتشديد التاء ، فبذلك ظلموهم إذ كانوا سببا لهول يحصل لهم من السؤال يوم القيامة كما قال الله تعالى وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقال ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون الآية ، وقال ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل الآية ، وظلموا أنفسهم في ذلك بتعريضها للسخرية في الدنيا وللعذاب في الآخرة وظلموا أعقابهم وقومهم الذين يتبعونهم في هذا الضلال فتمضي عليه العصور والأجيال ، ولذلك حذف مفعول ظلموا لقصد التعميم ، ولك أن تجعل ظلموا بمعنى أشركوا كما هو الشائع في القرآن قال تعالى عن لقمان إن الشرك لظلم عظيم وعليه فالفعل منزل منزلة اللازم لأنه صار كاللقب .
وجملة والذين آمنوا أشد حبا لله معترضة والغرض منها التنويه بشأن الذين آمنوا بأن حبهم لله صار أشد من حبهم الأنداد التي كانوا يعبدونها ، وهذا كقول للنبيء صلى الله عليه وسلم : عمر بن الخطاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي .
وتركيب " ولو ترى " وما أشبهه نحو " لو رأيت " من التراكيب التي جرت مجرى المثل فبنيت على الاختصار ، وقد تكرر وقوعها في القرآن .
وجواب " لو " محذوف لقصد التفخيم وتهويل الأمر لتذهب النفس في تصويره كل مذهب ممكن ، ونظيره ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ولو ترى إذ وقفوا على النار ولو أن قرءانا سيرت به الجبال ، قال المرزوقي عند قول الشميذر الحارثي :
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا بني عمنا لو كان أمرا مدانيا
: حذف الجواب في مثل هاته المواضع أبلغ وأدل على المراد بدليل أن السيد إذا قال لعبده : لئن قمت إليك ثم سكت تزاحم على العبد من الظنون المعترضة للتوعد ما لا يتزاحم [ ص: 95 ] لو نص على ضرب من العذاب ، والتقدير على قراءة نافع وابن عامر : لرأيت أمرا عظيما ، وعلى قراءة الجمهور : لرأوا أمرا عظيما .وقوله أن القوة قرأه الجمهور بفتح همزة " أن " وهو بدل اشتمال من " العذاب " أو من الذين ظلموا فإن ذلك العذاب من أحوالهم ، ولا يضر الفصل بين المبدل منه والبدل لطول البدل ، ويجوز أن يكون على حذف لام التعليل ، والتقدير : لأن القوة لله جميعا والتعليل بمضمون الجواب المقدر أي لرأيت ما هو هائل لأنه عذاب الله ولله القوة جميعا .
وجميعا استعمل في الكثرة فقوة غيره كالعدم ، وهذا كاستعمال ألفاظ الكثرة في معنى القوة وألفاظ القلة في معنى الوهن كما في قول تأبط شرا :
قليل التشكي للملم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك
وقرأه أبو جعفر ويعقوب ) إن القوة ( على الاستئناف البياني كأن سائلا قال : ماذا أرى وما هذا التهويل ؟ فقيل : إن القوة ولا يصح كونها حينئذ للتعليل التي تغني غناء الفاء كما هي في قول بشار :
إن ذاك النجاح في التبكير
لأن ذلك يكون في مواقع احتياج ما قبلها للتعليل حتى تكون صريحة فيه .وقرأ ابن عامر وحده " إذ يرون العذاب " بضم الياء أي إذ يريهم الله العذاب في معنى قوله وكذلك يريهم الله أعمالهم وانتصب جميعا على التوكيد لقوله القوة أي جميع جنس القوة ثابت لله ، وهو مبالغة لعدم الاعتداد بقوة غيره فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله الحمد لله .
وقد جاء لو في مثل هذا التركيب بشرط مضارع ووقع في كلام الجمهور من النحاة أن " لو " للشرط في الماضي وأن المضارع إذا وقع شرطا لها يصرف إلى معنى الماضي إذا أريد استحضار حالة ماضية ، وأما إذا كان المضارع بعدها متعينا للمستقبل فأوله الجمهور بالماضي في جميع مواقعه وتكلفوا في كثير منها كما وقع لصاحب المفتاح ، وذهب وبعض الكوفيين إلى أن " لو " حرف بمعنى إن لمجرد التعليق لا للامتناع ، وذهب المبرد ابن مالك في التسهيل والخلاصة إلى أن ذلك جائز لكنه قليل وهو يريد القلة النسبية لوقوع الماضي وإلا فهو وارد في القرآن وفصيح العربية .
[ ص: 96 ] والتحقيق أن الامتناع الذي تفيده لو متفاوت المعنى ومرجعه إلى أن شرطها وجوابها مفروضان فرضا وغير مقصود حصول الشرط ، فقد يكون ممكن الحصول وقد يكون متعذرا ، ولذلك كان الأولى أن يعبر بالانتفاء دون الامتناع لأن الامتناع يوهم أنه غير ممكن الحصول فأما الانتفاء فأعم ، وأن كون الفعل بعدها ماضيا أو مضارعا ليس لمراعاة مقدار الامتناع ولكن ذلك لمقاصد أخرى مختلفة باختلاف مفاد الفعلين في مواقعها في الشروط وغيرها ، إذ كثيرا ما يراد تعليق الشرط بلو في المستقبل نحو قول توبة :
ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ومن بين رمسينا من الأرض سبسب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمة لصوت صدى ليلى يهش ويطرب