تفريع جملة فإما يأتينكم مني هدى على الأمر بالهبوط من الجنة إلى الدنيا إنباء بأنهم يستقبلون في هذه الدنيا سيرة غير التي كانوا عليها في الجنة ؛ لأنهم أودعوا في عالم خليط خيره بشره ، وحقائقه بأوهامه ، بعد أن كانوا في عالم الحقائق المحضة والخير الخالص ، وفي هذا إنباء بطور طرأ على أصل الإنسان في جبلته كان معدا له من أصل تركيبه . والخطاب في قوله : " يأتينكم " لآدم باعتبار أنه أصل لنوع الإنسان إشعارا له بأنه سيكون منه جماعة ، ولا يشمل هذا الخطاب إبليس ؛ لأنه مفطور على الشر والضلال ، إذ قد أنبأه الله بذلك عند إبايته السجود لآدم ، فلا يكلفه الله باتباع الهدى ؛ لأن طلب الاهتداء ممن أعلمه الله بأنه لا يزال في ضلال يعد عبثا ينزه عنه فعل الحكيم تعالى . وليس هذا مثل أمر أبي جهل وأضرابه بالإسلام ؛ إذ أمثال أبي جهل لا يوقن بأنهم لا يؤمنون ، ولم يرد في السنة [ ص: 330 ] أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - دعا الشيطان للإسلام ولا دعا الشياطين . وأما الحديث الذي رواه : أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال : الدارقطني . فلا يقتضي أنه دعاه للإسلام ولكن الله ألهم قرينه إلى أن يأمره بالخير ، والمراد بالقرين : شيطان قرين ، والمراد بالهدى : الإرشاد إلى الخير . ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن ، قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : وإياي ، ولكن الله أعانني فأسلم
وفي هذه الآية وصاية الله آدم وذريته باتباع رسل الله والوحي الإلهي . وبذلك يعلم أن طلب الهدى مركوز في الجبلة البشرية حتى قال كثير من علماء الإسلام : إن معرفة الإله الواحد كائنة في العقول أو شائعة في الأجيال والعصور ، وإنه لذلك لم يعذر أهل الشرك في مدد الفتر التي لم تجئ فيها رسل للأمم . وهذه مسألة عظيمة وقد استوعبها علماء الكلام ، وحررناها في رسالة " النسب النبوي " .
وقد تقدم تفسير نظير الجملتين الأولين في سورة البقرة . وأما قوله : " فلا يضل " فمعناه : أنه إذا اتبع الهدى الوارد من الله على لسان رسله سلم من أن يعتريه شيء من ضلال ، وهذا مأخوذ من دلالة الفعل في حيز النفي على العموم كعموم النكرة في سياق النفي ، أي فلا يعتريه ضلال في الدنيا ، بخلاف من اتبع ما فيه هدى وارد من غير الله ، فإنه وإن استفاد هدى في بعض الأحوال لا يسلم من الوقوع في الضلال في أحوال أخرى . وهذا حال متبعي الشرائع غير الإلهية وهي الشرائع الوضعية ، فإن واضعيها وإن أفرغوا جهودهم في تطلب الحق لا يسلمون من الوقوع في ضلالات بسبب غفلات ، أو تعارض أدلة ، أو انفعال بعادات مستقرة ، أو مصانعة لرؤساء أو أمم رأوا أن من المصلحة طلب مرضاتهم . وهذا سقراط وهو سيد حكماء اليونان قد كان يتذرع لإلقاء الأمر بالمعروف في أثينا بأن يفرغه في قوالب حكايات على ألسنة الحيوان ، ولم يسلم من الخنوع لمصانعة اللفيف ، فإنه مع كونه لا يرى تأليه آلهتهم لم يسلم من [ ص: 331 ] أن يأمر قبل موته بقربان ديك لعطارد رب الحكمة . وحالهم بخلاف حال الرسل الذين يتلقون الوحي من علام الغيوب الذي لا يضل ولا ينسى . وأيدهم الله ، وعصمهم من مصانعة أهل الأهواء ، وكونهم تكوينا خاصا مناسبا لما سبق في علمه من مراده منهم ، وثبت قلوبهم على تحمل اللأواء ، ولا يخافون في الله لومة لائم . وإن الذي ينظر في القوانين الوضعية نظرة حكيم يجدها مشتملة على مراعاة أوهام وعادات .
والشقاء المنفي في قوله : " ولا يشقى " هو شقاء الآخرة ؛ لأنه إذا سلم من الضلال في الدنيا سلم من الشقاء في الآخرة .
ويدل لهذا مقابلة ضده في قوله : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ، إذ رتب على الإعراض عن هدي الله اختلال حاله في الدنيا والآخرة ، فالمعيشة مراد بها مدة المعيشة ، أي مدة الحياة .
والضنك : مصدر ضنك - من باب كرم - ضناكة وضنكا ، ولكونه مصدرا لم يتغير لفظه باختلاف موصوفه ، فوصف به هنا " معيشة " وهي مؤنث . والضنك : الضيق ، يقال : مكان ضنك ، أي ضيق . ويستعمل مجازا في عسر الأمور في الحياة ، قال عنترة :
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا أشدد وإن نزلوا بضنك أنزل
أي بمنزل ضنك ، أي فيه عسر على نازله . وهو هنا بمعنى عسر الحال من اضطراب البال وتبلبله . والمعنى : أن مجامع همه ومطامح نظره تكون إلى التحيل في إيجاد الأسباب والوسائل لمطالبه ، فهو متهالك على الازدياد ، خائف على الانتقاص ، غير ملتفت إلى الكمالات ، ولا مأنوس بما يسعى إليه من الفضائل ، يجعله الله في تلك الحالة وهو لا يشعر ، وبعضهم يبدو للناس في حالة حسنة ورفاهية عيش ولكن نفسه غير مطمئنة .
[ ص: 332 ] وجعل الله عقابه يوم الحشر أن يكون أعمى ؛ تمثيلا لحالته الحسية يومئذ بحالته المعنوية في الدنيا ، وهي حالة عدم النظر في وسائل الهدى والنجاة . وذلك المعنى عنوان على غضب الله عليه وإقصائه عن رحمته; فـ " أعمى " الأول مجاز ، " وأعمى " الثاني حقيقة . وجملة قال رب لم حشرتني أعمى مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، وجملة قال كذلك أتتك إلخ . . . واقعة في طريق المحاورة ؛ فلذلك فصلت ولم تعطف .
وفي هذه الآية دليل على أن الله أبلغ الإنسان من يوم نشأته التحذير من الضلال والشرك ، فكان ذلك مستقرا في الفطرة حتى قال كثير من علماء الإسلام : بأن الإشراك بالله من الأمم التي تكون في الفترة بين الشرائع مستحق صاحبه العقاب ، وقال جماعة من أهل السنة والمعتزلة قاطبة : إن معرفة الله واجبة بالعقل . ولا شك أن المقصود من ذكرها في القرآن تنبيه المخاطبين بالقرآن إلى الحذر من الإعراض عن ذكر الله ، وإنذار لهم بعاقبة مثل حالهم .
والإشارة في كذلك أتتك آياتنا راجعة إلى العمى المضمن في قوله : لم حشرتني أعمى ، أي مثل ذلك الحال التي تساءلت عن سببها كنت نسيت آياتنا حين أتتك ، وكنت تعرض عن النظر في الآيات حين تدعى إليه ، فكذلك الحال كان عقابك عليه جزاء وفاقا .
وقد ظهر من نظم الآية أن فيها ثلاثة احتباكات ، وأن تقدير الأول : ونحشره يوم القيامة أعمى وننساه ، أي نقصيه من رحمتنا . وتقدير الثاني والثالث : قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وعميت عنها ، فكذلك اليوم تنسى وتحشر أعمى .
[ ص: 333 ] والنسيان في الموضعين مستعمل كناية أو استعارة في الحرمان من حظوظ الرحمة . وجملة وكذلك نجزي من أسرف إلخ . . . تذييل ، يجوز أن تكون من حكاية ما يخاطب الله به من يحشر يوم القيامة أعمى ، قصد منها التوبيخ له والتنكيل ، فالواو عاطفة الجملة على التي قبلها . ويجوز أن تكون تذييلا للقصة وليست من الخطاب المخاطب به من يحشر يوم القيامة أعمى ، قصد منها موعظة السامعين ليحذروا من أن يصيروا إلى مثل ذلك المصير ، فالواو اعتراضية ؛ لأن التذييل اعتراض في آخر الكلام ، والواو الاعتراضية راجعة إلى الواو العاطفة ، إلا أنها عاطفة مجموع كلام على مجموع كلام آخر لا على بعض الكلام المعطوف عليه . والمعنى : ومثل ذلك الجزاء نجزي من أسرف ، أي كفر ولم يؤمن بآيات ربه .
فالإسراف : الاعتقاد الضال وعدم الإيمان بالآيات ومكابرتها وتكذيبها . والمشار إليه بقوله : " وكذلك " هو مضمون قوله : فإن له معيشة ضنكا ، أي وكذلك نجزي في الدنيا الذين أسرفوا ولم يؤمنوا بالآيات . وأعقبه بقوله : ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ، وهذا يجوز أن يكون تذييلا للقصة وليس من حكاية خطاب الله للذي حشره يوم القيامة أعمى . فالمراد بعذاب الآخرة مقابل عذاب الدنيا المفاد من قوله : فإن له معيشة ضنكا الآية ، والواو اعتراضية . ويجوز أن تكون الجملة من حكاية خطاب الله للذي يحشره أعمى ، فالمراد بعذاب الآخرة العذاب الذي وقع فيه المخاطب ، أي أشد من عذاب الدنيا وأبقى منه ؛ لأنه أطول مدة .