ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين
" ثم " عاطفة الجملة على الجمل السابقة ، فهي للترتيب الرتبي . والمعنى : وأهم مما ذكر أنا صدقناهم الوعد فأنجيناهم وأهلكنا الذين كذبوهم . ومضمون هذا أهم في الغرضين : التبشير والإنذار . فالتبشير للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بأن الله صادقه وعده من النصر ، والإنذار لمن ماثل أقوام الرسل الأولين .
والمراد بالوعد وعدهم النصر على المكذبين ، بقرينة قوله تعالى : " فأنجيناهم " المؤذن بأنه وعد عذاب لأقوامهم ، فالكلام مسوق مساق التنويه بالرسل الأولين ، وهو تعريض بوعيد الذين قالوا : فليأتنا بآية كما أرسل الأولون . وفي هذا تقريع للمشركين ، أي إن كان أعجبكم ما أتى به الأولون فسألتم من رسولكم مثله ، فإن حالكم كحال الذين أرسلوا إليهم ، فترقبوا مثل ما نزل بهم ويترقب رسولكم مثل ما لقي سلفه ، وهذا كقوله تعالى : قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين في سورة يونس .
وانتصب الوعد بـ " صدقناهم " على التوسع بنزع حرف الجر . وأصل الاستعمال أن يقال : صدقناهم في الوعد ؛ لأن " صدق " لا يتعدى [ ص: 21 ] إلا إلى مفعول واحد . وهذا الحذف شائع في الكلام ، ومنه في مثل هذا ما في المثل : صدقني سن بكره .
والإتيان بصيغة المستقبل في قوله تعالى : " من نشاء " احتباك ، والتقدير : فأنجيناهم ومن شئنا وننجي رسولنا ومن نشاء منكم ، وهو تأميل لهم أن يؤمنوا ؛ لأن من المكذبين يوم نزول هذه الآية من آمنوا فيما بعد إلى يوم فتح مكة ، وهذا من لطف الله بعباده في ترغيبهم في الإيمان ؛ ولذلك لم يقل : ونهلك المسرفين ، بل عاد إلى صيغة المضي الذي هو حكاية لما حل بالأمم السالفة ، وبقي المقصود من ذكر الذين أهلكوا وهو التعريض بالتهديد والتحذير أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك مع عدم التصريح بالوعيد .
والمسرفون : المفرطون في التكذيب بالإصرار والاستمرار عليه حتى حل بهم العذاب .