لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون
استئناف جواب عن قولهم : فليأتنا بآية كما أرسل الأولون بإيقاظهم إلى أن الآية التي جاءتهم هي أعظم من الآيات التي أرسل بها [ ص: 22 ] الأولون ، وتجهيلا لألبابهم التي لم تدرك عظم الآية التي جاءتهم كما أنبأ بذلك موقع هذه الجملة في هذا المكان .
وفي ضمير ذلك تحقيق ؛ لكون القرآن حقا ، وتذكير بما يشتمل عليه من المنافع التي عموا عنها فيما حكي عنهم أول السورة بقوله تعالى : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم كما أنبأ بذلك ظاهر معنى الآية .
ولقصد هذا الإيقاظ صدرت الجملة بما يفيد التحقيق من لام القسم وحرف التحقيق ، وجعل إنزال الكتاب إليهم كما اقتضته تعدية فعل " أنزلنا " بحرف " إلى " شأن تعدية فعل الإنزال أن يكون المجرور بـ " إلى " - هو المنزل إليه ، فجعل الإنزال إليهم لكونهم بمنزلة من أنزل إليه نظرا إلى أن الإنزال كان لأجلهم ودعوتهم . وذلك أبلغ من أن يقال : لقد أنزلنا لكم . وتنكير " كتابا " للتعظيم إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين : كونه كتاب هدى ، وكونه آية ومعجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مدانيه .
والذكر يطلق على التذكير بما فيه الصلاح ، ويطلق على السمعة والصيت كقوله : " ذكر رحمة ربك عبده زكرياء " . وقد أوثر هذا المصدر هنا وجعل معرفا بالإضافة إلى ضمير المخاطبين ليكون كلاما موجها ، فيصح قصد المعنيين معا من كلمة " الذكر " بأن مجيء القرآن مشتملا على أعظم الهدى ، هو تذكير لهم بما به نهاية إصلاحهم ، ومجيئه بلغتهم ، وفي قومهم ، وبواسطة واحد منهم ، سمعة عظيمة لهم ، كما قال تعالى : بلسان عربي مبين وقال : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم .
[ ص: 23 ] وقد فسر السلف هذه الآية بالمعنيين . وفي تفسير هنا قال جماعة : معنى " فيه ذكركم " أنه الشرف ، أي فيه شرفكم . وقال الطبري ابن عطية : يحتمل أن يريد : فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما تذكر عظام الأمور . وقد فسر بمثل ذلك قوله تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك .
وعلى المعنيين يكون لتفريع قوله تعالى : " أفلا تعقلون " أحسن موقع ؛ لأن الاستفهام الإنكاري لنفي عقلهم متجه على كلا المعنيين ، فإن من جاءه ما به هديه فلم يهتد ينكر عليه سوء عقله ، ومن جاءه ما به مجده وسمعته فلم يعبأ به ينكر عليه سوء قدره للأمور حق قدرها ، كما يكون الفضل في مثله مضاعفا . وأيضا فهو متفرع على الإقناع بإنزال القرآن آية تفوق الآيات التي سألوا مثلها ، وهو المفاد من الاستئناف ومن تأكيد الجملة بالقسم وحرف التحقيق ، قال تعالى : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون في سورة العنكبوت ، وذلك لإعجازه اللفظي والمعنوي .