وجعلناها وابنها آية للعالمين والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا
لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيئة إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة ، كما قال الله تعالى إن المسلمين والمسلمات الآية . هذه هي مريم ابنة عمران . وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصوليه غالبا ، وأيضا لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقولوا عنها إفكا وزورا ، وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى فنفخنا فيها من روحنا الذي هو في حكم [ ص: 138 ] الصلة أيضا ، فكأنه قيل : والتي نفخنا فيها من روحنا ، ؛ لأن كلا الأمرين موجب ثناء . وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيم قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حمل أنثى دون قربان ذكر ، ليرى الناس مثالا من التكوين الأول كما أشار إليه قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون .
والنفخ ، حقيقته : إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين . وأطلق هنا تمثيلا لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيها لهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ . وقد قيل : إن الملك نفخ مما هو له كالفم .
والظرفية المفادة بـ ( في ) كون مريم ظرفا لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه ، ولذلك قيل ( فيها ) ولم قيل ( فيه ) للإشارة إلى أن الحمل الذي كون في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد ، كأنه قيل : فنفخنا في بطنها . وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة .
: هو القوة التي بها الحياة ؛ قال تعالى والروح فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ، أي جعلت آدم روحا فصار حيا . وحرف ( من ) تبعيضي ، والمنفوخ روح لأنه جعل بعض روح الله ، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة . وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن [ ص: 139 ] الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي . وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في سورة المؤمنين وجعلنا ابن مريم وأمه آية . وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو والليل إذا يغشى والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها . وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس . وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية علم أن كل واحد آية خاصة . ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة . ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل .