أقيمت هذه السورة على عماد إثبات الرسالة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وتصديق دعوته . فافتتحت بإنذار المعاندين باقتراب [ ص: 165 ] حسابهم ووشك حلول وعد الله فيهم وإثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يكن بدعا من الرسل ، وذكروا إجمالا ، ثم ذكرت طائفة منهم على التفصيل . وتخلل ذلك بمواعظ ودلائل . وعطفت هذه الجملة على جميع ما تقدم من ذكر الأنبياء الذين أوتوا حكما وعلما وذكر ما أوتوه من الكرامات ، فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - . ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومها ودوامها ؛ وذلك كونها رحمة للعالمين ، فهذه الجملة عطف على جملة وجعلناها وابنها آية للعالمين ختاما لمناقب الأنبياء ، وما بينهما اعتراض واستطراد . ولهذه الجملة اتصال بآية وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون . ووزانها في وصف شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وزان آية ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وآية ولقد آتينا إبراهيم رشده والآيات التي بعدها في وصف ما أوتيه الرسل السابقون . وصيغت بأبلغ نظم إذ اشتملت هاته الآية بوجازة ألفاظها على مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومدح مرسله تعالى ، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه . فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفا بدون حرف العطف الذي عطفت به . وذكر فيها الرسول ، ومرسله ، والمرسل إليهم ، والرسالة ، وأوصاف هؤلاء الأربعة ، مع إفادة عموم الأحوال ، واستغراق المرسل إليهم ، وخصوصية الحصر ، وتنكير ( رحمة ) للتعظيم ; إذ لا مقتضى [ ص: 166 ] لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل : إلا لنرحم العالمين ، أو إلا أنك الرحمة للعالمين . وليس التنكير للإفراد قطعا لظهور أن المراد جنس الرحمة وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة التعظيم . فهذه اثنا عشر معنى خصوصيا ، فقد فاقت أجمع كلمة لبلغاء العرب ، وهي :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
إذ تلك الكلمة قصاراها كما قالوا : أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل دون خصوصية أزيد من ذلك فجمع ستة معان لا غير وهي غير خصوصية ؛ إنما هي وفرة معان . وليس تنكير حبيب ومنزل إلا للوحدة لأنه أراد فردا معينا من جنس الأحباب وفردا معينا من جنس المنازل ، وهما حبيبه صاحب ذلك المنزل ، ومنزله . واعلم أن انتصاب ( رحمة ) على أنه حال من ضمير المخاطب يجعله وصفا من أوصافه فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة صار من قصر الموصوف على الصفة . ففيه إيماء لطيف إلى أن الرسول اتحد بالرحمة وانحصر فيها ، ومن المعلوم أن عنوان الرسولية ملازم له في سائر أحواله ، فصار وجوده رحمة وسائر أكوانه رحمة . ووقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله ، ويدل لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبيء - صلى الله عليه وسلم - بقوله . وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين : الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة ، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته . فأما المظهر الأول فقد قال فيه إنما أنا رحمة مهداة أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلامذة أبي علي الغساني وممن أجاز لهم من رجال القرن الخامس : زين الله أبو الوليد الباجي محمدا - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 167 ] بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق اهـ . ذكره عنه عياض في الشفاء . قلت : يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - فطر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحى به إليه ملائما رغبته وخلقه . قالت أن عائشة " " . ولهذا خص الله كان خلقه القرآن محمدا - صلى الله عليه وسلم - في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء ، وكذلك في القرآن كله ؛ قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم وقال تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم أي برحمة جبلك عليها وفطرك بها فكنت لهم لينا . وفي حديث مسلم : أحد شق ذلك على أصحابه فقالوا : لو دعوت عليهم فقال : إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة . وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته . أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم ؛ لأن قوله تعالى ( للعالمين ) متعلق بقوله ( رحمة ) . والتعريف في ( العالمين ) لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم . أن رسول الله لما شج وجهه يوم
والعالم : الصنف من أصناف ذوي العلم ، أي الإنسان ، أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة كما تقدم من احتمال المعنيين في قوله تعالى الحمد لله رب العالمين . فإن أريد أصناف ذوي العلم فمعنى كون الشريعة المحمدية منحصرة في الرحمة - أنها أوسع الشرائع رحمة بالناس فإن الشرائع السالفة وإن كانت مملوءة برحمة إلا أن الرحمة فيها غير عامة إما لأنها لا تتعلق بجميع أحوال المكلفين ، فالحنيفية شريعة إبراهيم - عليه السلام - كانت رحمة خاصة بحالة الشخص [ ص: 168 ] في نفسه وليس فيها تشريع عام ، وشريعة عيسى - عليه السلام - قريبة منها في ذلك ، وإما لأنها قد تشتمل في غير القليل من أحكامها على شدة اقتضتها حكمة الله في سياسة الأمم المشروعة هي لها مثل شريعة التوراة فإنها أوسع الشرائع السالفة لتعلقها بأكثر أحوال الأفراد والجماعات ، وهي رحمة كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون فإن كثيرا من عقوبات أمتها جعلت في فرض أعمال شاقة على الأمة بفروض شاقة مستمرة ؛ قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وقال فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم إلى آيات كثيرة .
لا جرم أن الله تعالى خص الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة . وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى فيما حكاه خطابا منه لموسى - عليه السلام - ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ) الآية . ففي قوله تعالى وسعت كل شيء إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة . وحكمة تمييز شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تساس بالرحمة وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تقام المصالح بدونها ، فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة وما في شريعة الإسلام من تمحض الرحمة لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة ، ولكن الله أسعد هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم . [ ص: 169 ] . قال تعالى فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر وما جعل عليكم في الدين من حرج وقال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - . وما يتخيل من شدة في نحو القصاص والحدود فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله تعالى بعثت بالحنيفية السمحة ولكم في القصاص حياة . فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس . وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة . ورحمته بهم عدم إكراههم على مفارقة أديانهم . وإجراء العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة . هذا وإن أريد بـ ( العالمين ) في قوله تعالى إلا رحمة للعالمين النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به . إذ هو مخلوق لأجل الإنسان قال تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا وقال تعالى والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم .
وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما ينتفع به من الحيوان ولم تأذن في غير ذلك . ولذلك كره صيد اللهو وحرم تعذيب الحيوان لغير أكله ، وعد فقهاؤنا سباق الخيل رخصة للحاجة في الغزو ونحوه . ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان ففي حديث الموطأ عن مرفوعا : أبي هريرة . إن الله غفر لرجل وجد كلبا يلهث من العطش فنزل [ ص: 170 ] في بئر فملأ خفه ماء وأمسكه بفمه حتى رقي فسقى الكلب فغفر الله له
أما المؤذي والمضر من الحيوان فقد أذن في قتله وطرده لترجيح رحمة الناس على رحمة البهائم . وفي تفاصيل الأحكام من هذا القبيل كثرة لا يعوز الفقيه تتبعها .