جملة كتب عليه أنه من تولاه إلى آخرها صفة ثانية لـ شيطان مريد فالضمير المجرور عائد إلى ( شيطان ) . وكذلك الضمائر في أنه من تولاه فأنه . وأما الضميران البارزان في قوله يضله ويهديه إلى عذاب السعير فعائدان إلى ( من ) الموصولة . أي يضل الشيطان متوليه عن الحق ويهدي متوليه إلى عذاب السعير . واتفقت القراءات العشر على قراءة ( كتب ) بضم الكاف على أنه مبني للنائب . واتفقت أيضا على فتح الهمزتين من قوله تعالى أنه من تولاه فأنه يضله . والكتابة مستعارة للثبوت واللزوم ، أي لزمه إضلال متوليه ودلالته على عذاب السعير ، فأطلق على لزوم ذلك فعل ( كتب عليه ) أي وجب عليه ، فقد شاع أن العقد إذا أريد تحقيق العمل به وعدم الإخلال به كتب في صحيفة . قال الحارث بن حلزة :
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
[ ص: 194 ] والضمير في ( أنه ) عائد إلى ( شيطان ) وليس ضمير شأن ؛ لأن جعله ضمير شأن لا يناسب كون الجملة في موقع نائب فاعل ( كتب ) . إذ هي حينئذ في تأويل مصدر وضمير الشأن يتطلب بعده جملة ، والمصدران المنسبكان من قوله أنه من تولاه وقوله فأنه يضله نائب فعل ( كتب ) ومفرع عليه بفاء الجزاء . أي كتب عليه إضلال من تولاه . والتولي : اتخاذ ولي ، أي نصير ، أي من استنصر به .
و ( من ) موصولة وليست شرطية ؛ لأن المعنى على الإخبار الثابت لا على التعليق بالشرط . وهي مبتدأ ثان . والضمير المستتر في قوله ( تولاه ) عائد إلى ( من ) الموصولة . والضمير المنصوب البارز عائد إلى ( شيطان ) . أي أن الذي يتخذ الشيطان وليا فذلك الشيطان يضله .
والفاء في قوله فأنه يضله داخلة على الجملة الواقعة خبرا عن من الموصولة تشبيها لجملة الخبر عن الموصول بجملة الجزاء لشبه الموصول بالشرط قصدا لتقوية الإخبار . والمصدر المنسبك من قوله فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير في تقدير مبتدأ هو صدر للجملة الواقعة خبرا عن ( من ) الموصولة . والتقدير : فإضلاله إياه ودلالته إياه إلى عذاب السعير . وخبر هذا المبتدأ مقدر لأنه حاصل من معنى إسناد فعلي الإضلال والهداية إلى ضمير المبتدأ . والتقدير : ثابتان . ويجوز أن تجعل الفاء في قوله فأنه يضله فاء تفريع ويجعل ما بعدها معطوفا على من تولاه ويكون المعطوف هو المقصود من الإخبار كما هو مقتضى التفريع . والتقدير : كتب عليه ترتب الإضلال منه لمتوليه وترتب إيصاله متوليه إلى عذاب السعير . هذان هما الوجهان في نظم الآية وما عداهما تكلفات .
واعلم أن ما نظمت به الآية هنا لا يجري على نظم قوله تعالى في سورة " براءة " ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها [ ص: 195 ] لأن مقتضى فعل العلم غير مقتضى فعل ( كتب ) . فلذلك كانت ( من ) في قوله من يحادد شرطية لا محالة وكان الكلام جاريا على اعتبار الشرطية وكان الضمير هنالك في قوله ( أنه ) ضمير شأن .
ولما كان الضلال مشتهرا في معنى البعد عن الخير والصلاح لم يحتج في هذه الآية إلى ذكر متعلق فعل ( يضله ) لظهور المعنى . وذكر متعلق فعل ( يهديه ) وهو ( إلى عذاب السعير ) لأن تعلقه به غريب إذ الشأن أن يكون الهدى إلى ما ينفع لا إلى ما يضر ويعذب .
وفي الجمع بين ( يضله ويهديه ) محسن الطباق بالمضادة . وقد عد من هذا الفريق الشامل له قوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم النضر بن الحارث . وقيل نزلت فيه . كان كثير الجدل ؛ يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، والله غير قادر على إحياء أجساد بليت وصارت ترابا . وعد منهم أيضا أبو جهل ، وأبي بن خلف . ومن قال : إن المقصود بقوله ( من يجادل ) معينا خص الآية به . ولا وجه للتخصيص وما هو إلا تخصيص بالسبب .