أعيد الخطاب بـ يا أيها الذين آمنوا ؛ لأن هذا صنف من التشريع لأحكام ذات بال في صلاح المجتمع الإسلامي ، واستتباب نظامه وأمنه حين صار المسلمون بعد الهجرة جماعة ذات استقلال بنفسها ومدينتها ، فإن هاته الآيات كانت من أول ما أنزل بالمدينة عام الهجرة ، كما ذكره المفسرون في سبب نزولها في تفسير قوله تعالى بعد هذا : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم الآية .
تلك أحكام متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع ، وابتدئ بأحكام القصاص ؛ لأن أعظم شيء من اختلال الأحوال اختلال حفظ نفوس الأمة ، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل ، يعلم ذلك من له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم ، فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك فلم يتداركهم الله فيه بنعمة الإسلام ، [ ص: 135 ] فكانوا يغير بعضهم على بعض لغنيمة أنعامه وعبيده ونسائه فيدافع المغار عليه ، وتتلف نفوس بين الفريقين ، ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات ، فيسعى كل من قتل له قتيل في قتل قاتل وليه ، وإن أعوزه ذلك قتل به غيره من واحد كفء له ، أو عددا يراهم لا يوازونه ، ويسمون ذلك بالتكايل في الدم ؛ أي : كأن دم الشريف يكال بدماء كثيرة فربما قدروه باثنين أو بعشرة أو بمائة ، وهكذا يدور الأمر ويتزايد تزايدا فاحشا حتى يصير تفانيا قال زهير :
تداركتما عبسا وذبيان بعد ما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وينتقل الأمر من قبيلة إلى قبيلة بالولاء والنسب والحلف والنصرة ، حتى صارت الإحن فاشية فتخاذلوا بينهم واستنصر بعض القبائل على بعض ، فوجد الفرس والروم مدخلا إلى التفرقة بينهم فحكموهم وأرهبوهم ، وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها أي : كنتم أعداء بأسباب الغارات والحروب فألف بينكم بكلمة الإسلام ، وكنتم على وشك الهلاك فأنقذكم منه ، فضرب مثلا للهلاك العاجل الذي لا يبقي شيئا بحفرة النار ، فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلا أقل حركة .
فمعنى ( كتب عليكم ) أنه حق لازم للأمة لا محيد عن الأخذ به ، فضمير " عليكم " لمجموع الأمة على الجملة ، لمن توجه له حق القصاص ، وليس المراد : على كل فرد فرد القصاص ؛ لأن ولي الدم له العفو عن دم وليه ، كما قال تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأصل الكتابة نقش الحروف في حجر أو رق أو ثوب ، ولما كان ذلك النقش يراد به التوثق لما نقش به ودوام تذكره أطلق " كتب " على المعنى : حق وثبت ؛ أي : حق لأهل القتيل .
والقصاص اسم لتعويض حق جناية أو حق غرم على أحد بمثل ذلك من عند المحقوق إنصافا وعدلا ، فالقصاص يطلق على عقوبة الجاني بمثل ما جنى ، وعلى محاسبة رب الدين بما عليه للمدين من دين يفي بدينه ، فإطلاقاته كلها تدل على التعادل والتناصف في الحقوق والتبعات المعروضة للغمص .
وهو بوزن فعال ، وهو وزن مصدر فاعل من القص وهو القطع ، ومنه قولهم : طائر مقصوص الجناح ، ومنه سمي المقص لآلة القص ؛ أي : القطع ، وقصة الشعر - بضم القاف - ما يقص منه ؛ لأنه يجري في حقين متبادلين بين جانبين يقال قاص فلان فلانا إذا طرح من دين في ذمته مقدارا [ ص: 136 ] يدين له في ذمة الآخر ، فشبه التناصف بالقطع ؛ لأنه يقطع النزاع الناشب قبله ، فلذلك سمي القود وهو تمكين ولي المقتول من قتل قاتل مولاه قصاصا قال تعالى : ولكم في القصاص حياة وسميت عقوبة من يجرح أحدا جرحا عمدا عدوانا بأن يجرح ذلك الجارح مثل ما جرح غيره قصاصا قال تعالى : والجروح قصاص وسموا معاملة المعتدي بمثل جرمه قصاصا والحرمات قصاص فماهية القصاص تتضمن ماهية التعويض والتماثل .
فقوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى يتحمل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل ، وتتحمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو كالعوض له والمثل ، وتتحمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شركة له في قتل القتيل ، فأفاد قوله : " كتب عليكم " حق المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى ، فلا يذهب حق قتيل باطلا ولا يقتل غير القاتل باطلا ، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف وإهمال حق الضعيف إذا قتله القوي الذي يخشى قومه ، ومن تحكمهم بطلب قتل غير القاتل إذا قتل أحد رجلا شريفا يطلبون قتل رجل شريف مثله ، بحيث لا يقتلون القاتل إلا إذا كان بواء للمقتول ؛ أي : كفأ له في الشرف والمجد ، ويعتبرون قيمة الدماء متفاوتة بحسب تفاوت السؤدد والشرف ، ويسمون ذلك التفاوت تكايلا من الكيل ، قالت ابنة بهدل بن قرقة الطائي تستثير رهطها على قتل رجل قتل أباها ، وتذكر أنها ما كانت تقنع بقتله به لولا أن الإسلام أبطل تكايل الدماء :
أما في بني حصن من ابن كريهة من القوم طلاب الترات غشمشم
فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له بواء ولكن لا تكايل بالدم
قال النبيء صلى الله عليه وسلم . المسلمون تتكافأ دماؤهم
وقد ثبت بهذه الآية شرع ، وحكمة ذلك ردع أهل العدوان عند الإقدام على قتل الأنفس إذا علموا أن جزاءهم القتل ، فإن الحياة أعز شيء على الإنسان في الجبلة ، فلا تعادل عقوبة القتل في الردع والانزجار ، ومن حكمة ذلك تطمين أولياء القتلى بأن القضاء ينتقم لهم ممن اعتدى على قتيلهم قال تعالى : القصاص في قتل العمد ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا أي : لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم [ ص: 137 ] بأنفسهم ؛ لأن ذلك يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس كما تقدم في الكلام على صدر الآية ، ويأتي عند قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة وأول دم أقيد به في الإسلام دم رجل من هذيل قتله رجل من بني ليث ، فأقاد منه النبيء صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى فتح الطائف بموضع يقال له : بحرة الرغاء في طريق الطائف وذلك سنة ثمان من الهجرة .
و " في " من قوله : " في القتلى " للظرفية المجازية ، والقصاص لا يكون في ذوات القتلى ، فتعين تقدير مضاف ، وحذفه هنا ليشمل القصاص سائر شئون القتلى وسائر معاني القصاص ، فهو إيجاز وتعميم .
وجمع ( القتلى ) باعتبار جمع المخاطبين ؛ أي : في قتلاكم ، والتعريف في القتلى تعريف الجنس ، والقتيل هو من يقتله غيره من الناس والقتل فعل الإنسان إماتة إنسان آخر فليس الميت بدون فعل فاعل قتيلا .
وجملة الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى بيان وتفصيل لجملة كتب عليكم القصاص في القتلى فالباء في قوله : " بالحر " وما بعده متعلقة بمحذوف دل عليه معنى القصاص ، والتقدير : الحر يقتص أو يقتل بالحر إلخ ، ومفهوم القيد مع ما في الحر والعبد والأنثى من معنى الوصفية يقتضي أن الحر يقتل بالحر لا بغيره ، والعبد يقتل بالعبد لا بغيره ، والأنثى تقتل بالأنثى لا بغيرها ، وقد اتفق علماء الإسلام على أن هذا المفهوم غير معمول به باطراد ، لكنهم اختلفوا في المقدار المعمول به منه بحسب اختلاف الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة ، وفي المراد من هذه الآية ومحمل معناها ، ففي الموطأ : قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية أن قوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد فهؤلاء الذكور ، وقوله : " والأنثى بالأنثى " : أن القصاص يكون بين الإناث كما يكون بين الذكور ، كما يقتل الحر بالحر ، والمرأة الحرة تقتل بالمرأة الحرة كما يقتل العبد بالعبد ، والقصاص يكون بين النساء كما يكون بين الرجال ، والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء . والأمة تقتل بالأمة
أي : وخصت الأنثى بالذكر مع أنها مشمولة لعموم الحر بالحر والعبد لئلا يتوهم أن صيغة التذكير في قوله : " الحر " وقوله : " العبد " مراد بها خصوص الذكور .
قال القرطبي عن طائفة : إن الآية جاءت مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه فبينت حكم الحر [ ص: 138 ] إذا قتل حرا ، والعبد إذا قتل عبدا ، والأنثى إذا قتلت أنثى ، ولم يتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر ، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس الآية ا هـ .
وعلى هذا الوجه فالتقييد لبيان عدم التفاضل في أفراد النوع ، ولا مفهوم له فيما عدا ذلك من تفاضل الأنواع إثباتا ولا نفيا ، وقال : نزلت في قوم قالوا : لنقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى . وذلك وقع في قتال بين حيين من الشعبي الأنصار ، ولم يثبت هذا الذي رواه ، وهو لا يغني في إقامة محمل الآية ، وعلى هذين التأويلين لا اعتبار بعموم مفهوم القيد ؛ لأن شرط اعتباره ألا يظهر لذكر القيد سبب إلا الاحتراز عن نقيضه ، فإذا ظهر سبب غير الاحتراز بطل الاحتجاج بالمفهوم ، وحينئذ فلا دلالة في الآية على ألا يقتل حر بعبد ولا أنثى بذكر ، ولا على عكس ذلك ، وإن دليل المساواة بين الأنثى والذكر وعدم المساواة بين العبد والحر عند من نفى المساواة مستنبط من أدلة أخرى .
الثالث : نقل عن : أن هذا كان حكما في صدر الإسلام ثم نسخ بآية المائدة ابن عباس أن النفس بالنفس ونقله في الكشاف عن سعيد بن المسيب والنخعي والثوري وأبي حنيفة ، ورده ابن عطية والقرطبي بأن آية المائدة حكاية عن بني إسرائيل ، فكيف تصلح نسخا لحكم ثبت في شريعة الإسلام ، أي : حتى على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا ، فمحله ما لم يأت في شرعنا خلافه .
وقال ابن العربي في الأحكام عن الحنفية : إن قوله تعالى " في القتلى " هو نهاية الكلام ، وقوله : الحر بالحر جاء بعد ذلك ، وقد ثبت عموم المساواة بقوله : كتب عليكم القصاص في القتلى لأن القتلى عام ، وخصوص آخر الآية لا يبطل عموم أولها ، ولذلك قالوا : يقتل الحر بالعبد ، قلت : يرد على هذا أنه لا فائدة في التفصيل لو لم يكن مقصودا ، وأن الكلام بأواخره ، فالخاص يخصص العام لا محالة ، وأنه لا محيص من اعتبار كونه تفصيلا إلا أن يقولوا إن ذلك كالتمثيل ، والمنقول عن الحنفية في الكشاف هو ما ذكرناه آنفا .
ويبقى بعد هاته التأويلات سؤال قائم عن وجه تخصيص الأنثى بعد قوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد وهل تخرج الأنثى عن كونها حرة أو أمة بعد ما تبين أن المراد بالحر والعبد الجنسان ؛ إذ ليس صيغة الذكور فيها للاحتراز عن النساء منهم ؛ فإن " ال " [ ص: 139 ] لما صيرته اسم جنس صار الحكم على الجنس وبطل ما فيه من صيغة تأنيث ، كما يبطل ما فيه من صيغة جمع إن كانت فيه .
ولأجل هذا الإشكال سألت العلامة الجد الوزير رحمه الله عن وجه مجيء هذه المقابلة المشعرة بألا يقتص من صنف إلا لقتل مماثله في الصفة ، فترك لي ورقة بخطه فيها ما يأتي : الظاهر والله تعالى أعلم أن الآية يعني آية سورة المائدة نزلت إعلاما بالحكم في بني إسرائيل تأنيسا وتمهيدا لحكم الشريعة الإسلامية ، ولذلك تضمنت إناطة الحكم بلفظ النفس المتناول للذكر والأنثى ، الحر والعبد ، الصغير والكبير ، ولم تتضمن حكما للعبيد ولا للإناث ، وصدرت بقوله : وكتبنا عليهم فيها والآية الثانية " يعني آية سورة البقرة " صدرت بقوله : ( كتب عليكم ) وناط الحكم فيها بالحرية المتناولة للأصناف كلها ، ثم ذكر حكم العبيد والإناث ردا على من يزعم أنه لا يقتص لهم ، وخصص الأنثى بالأنثى للدلالة على أن دمها معصوم ، وذلك لأنه إذا اقتص لها من الأنثى ولم يقتص لها من الذكر صار الدم معصوما تارة لذاته غير معصوم أخرى ، وهذا من لطف التبليغ حيث كان الحكم متضمنا لدليله ، فقوله :
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
فإن قلت : كان الوجه ألا يقول : ( بالأنثى ) المشعر بأن الأنثى لا تقتل بالرجل مع إجماع المسلمين على أن . قلت : الظاهر أن القيد خرج مخرج الغالب ، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تقتل إلا أنثى ، إذ لا يتثاور الرجال والنساء ، فذكر " بالأنثى " خارج على اعتبار الغالب ، كمخرج وصف السائمة في قول النبيء صلى الله عليه وسلم المرأة يقتص منها للرجل والخلاصة أن الآية لا يلتئم منها معنى سليم من الإشكال إلا معنى إرادة التسوية بين الأصناف لقصد إبطال عوائد الجاهلية . في الغنم السائمة الزكاة
[ ص: 140 ] وإذا تقرر أن الآية لا دلالة لها على نفي القصاص بين الأصناف المختلفة ، ولا على إثباته من جهة ما ورد على كل تأويل غير ذلك من انتقاض بجهة أخرى ، فتعين أن قوله : الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى محمله الذي لا شك فيه هو مساواة أفراد كل صنف بعضها مع بعض دون تفاضل بين الأفراد ، ثم أدلة العلماء في تسوية القصاص بين بعض الأصناف مع بعض ، الذكور بالإناث ، وفي عدمها كعدم تسوية الأحرار بالعبيد عند الذين لا يسوون بين صنفيهما خلافا لأبي حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وداود - أدلة أخرى غير هذا القيد الذي في ظاهر الآية ، فأما أبو حنيفة فأخذ بعموم قوله : " القتلى " ولم يثبت له مخصصا ، ولم يستثن منه إلا ، واستثناؤه لا خلاف فيه ، ووجهه أن الحربي غير معصوم الدم ، وأما المعاهد ففي حكم قتل المسلم إياه مذاهب ، وأما القصاص بين المسلم والكافر الحربي الشافعي وأحمد فنفيا ، وأخذا بحديث القصاص من المسلم للذمي والمعاهد ، لا يقتل مسلم بكافر ومالك والليث قالا : لا قصاص من المسلم إذا قتل الذمي والمعاهد قتل عدوان ، وأثبتا القصاص منه إذا قتل غيلة .
وأما القصاص بين الحر والعبد في قطع الأطراف فليس من متعلقات هذه الآية ، وسيأتي عند قوله تعالى : ( والجروح قصاص ) في سورة العقود . ونفى مالك والشافعي وأحمد القصاص من الحر للعبد استنادا لعمل الخلفاء الراشدين وسكوت الصحابة ، واستنادا لآثار مروية ، وقياسا على انتفاء القصاص من الحر في إصابة أطراف العبد فالنفس أولى بالحفظ . والقصاص من العبد لقتله الحر ثابت عندهما بالفحوى ، والقصاص من الذكر لقتل الأنثى ثابت بلحن الخطاب .