هذا متصل في المعنى بقوله ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم الآية . وقد فصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله وبشر المحسنين إن الله يدافع عن الذين آمنوا إلى هنا ، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله الآية ، ليبنى عليه قوله فلا ينازعنك في الأمر . فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة ، بأن الله ما جعل لأهل كل ملة سبقت إلا منسكا واحدا يتقربون فيه إلى الله لأن المتقرب إليه واحد . وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكل صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعزى ، قال النابغة :
وما هريق على الأنصاب من جسد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .أي دم . وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا كما تقدم آنفا .
فالجملة استئناف . والمناسبة ظاهرة ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة .
[ ص: 328 ] والمنسك بفتح الميم وفتح السين : اسم مكان النسك - بضمهما - كما تقدم . وأصل النسك العبادة ويطلق على القربان ، فالمراد بالمنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان . والضمير في ( ناسكوه ) منصوب على نزع الخافض ، أي ناسكون فيه .
وفي الموطأ : أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح ، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء : نحن أصوب ، ويقول هؤلاء : نحن أصوب ، فقال الله تعالى لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه الآية ، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اهـ .
قال الباجي في المنتقى : وهو قول ربيعة . وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه ، أي نزلت في سنة تسع . والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة .
وفرع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبيء - صلى الله عليه وسلم - في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها ، فالنهي ظاهره موجه إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - لأن ما أعطيه من الحجج كاف في قطع منازعة معارضيه ، فالمعارضون هم المقصود بالنهي ، ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحجج وجه إليه النهي عن منازعتهم إياه ، كأنه قيل : فلا تترك لهم ما ينازعونك به ، وهو من باب قول العرب : لا أعرفنك تفعل كذا ، أي لا تفعل فأعرفك ، فجعل المتكلم النهي موجها إلى نفسه . والمراد نهي السامع عن أسبابه ، وهو نهي للغير بطريق الكناية .
[ ص: 329 ] وقال : هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله . فيصح نهي كل من الجانبين عنه . وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله . وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعد ما سيق لهم من الحجج . واسم ( الأمر ) هنا مجمل مراد به التوحيد بالقرينة ، ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملة الزجاج إبراهيم وأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قرر الحج الذي هو من مناسكهم ، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملة إبراهيم . فكان قوله تعالى لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه كشفا لشبهتهم بأن الحج منسك حق ، وهو رمز التوحيد ، وأن ما عداه باطل طارئ عليه فلا ينازعن في أمر الحج بعد هذا ، وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ، ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مقام النبيء - صلى الله عليه وسلم - بها وبالمدينة في أول مقامه بها فلا منازعة بين النبيء وبين أهل الكتاب يومئذ ، فيبعد تفسير المنازعة بمنازعة أهل الكتاب .
وقوله وادع إلى ربك عطف على جملة فلا ينازعنك في الأمر . عطف على انتهاء المنازعة في الدين أمر بالدوام على الدعوة وعدم الاكتفاء بظهور الحجة لأن المكابرة تجافي الاقتناع ، ولأن في الدوام على الدعوة فوائد للناس أجمعين . وفي حذف مفعول ادع إيذان بالتعميم . [ ص: 330 ] وجملة إنك لعلى هدى مستقيم تعليل للدوام على الدعوة وأنها قائمة مقام فاء التعليل لا لرد الشك . و ( على ) مستعارة للتمكن من الهدى .
ووصف الهدى بالمستقيم استعارة مكنية ، شبه الهدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالا ، فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال إلى الكمال النفساني الذي هو غاية الأديان . وفي هذا الخبر تثبيت للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وتجديد لنشاطه في الاضطلاع بأعباء الدعوة .