ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين
الآيات : المعجزات ، وإضافتها إلى ضمير الجلالة للتنويه بها وتعظيمها . والسلطان المبين : الحجة الواضحة التي لقنها الله موسى فانتهضت على فرعون وملئه . والباء للملابسة ، أي : بعثناه ملابسا للمعجزات والحجة .
وملأ فرعون : أهل مجلسه وعلماء دينه وهم السحرة . وإنما جعل الإرسال إليهم دون بقية أمة القبط ; لأن دعوة موسى وأخيه إنما كانت خطابا لفرعون وأهل دولته الذين بيدهم تصريف أمور الأمة لتحرير بني إسرائيل من استعبادهم إياهم قال تعالى : فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم . ولم يرسلا بشريعة إلى القبط . وأما الدعوة إلى التوحيد فمقدمة لإثبات الرسالة لهم .
وعطف ( فاستكبروا ) بفاء التعقيب يفيد أنهم لم يتأملوا الدعوة والآيات والحجة ولكنهم أفرطوا في الكبرياء ، فالسين والتاء للتوكيد ، أي : تكبروا كبرياء شديدة بحيث لم يعيروا آيات موسى وحجته أذنا صاغية .
وجملة وكانوا قوما عالين معترضة بين فعل ( استكبروا ) وما تفرع عليه من قوله : ( فقالوا ) في موضع الحال من فرعون وملئه ، أي : فاستكبروا بأن أعرضوا عن استجابة دعوة موسى وهارون وشأنهم الكبرياء والعلو ، أي : كان الكبر خلقهم وسجيتهم . وقد بينا عند قوله تعالى : [ ص: 64 ] لآيات لقوم يعقلون من سورة البقرة أن إجراء وصف على لفظ ( قوم ) أو الإخبار بلفظ ( قوم ) متبوع باسم فاعل إنما يقصد منه تمكن ذلك الوصف من الموصوف بلفظ ( قوم ) أو تمكنه من أولئك القوم . فالمعنى هنا : أن استكبارهم على تلقي دعوة موسى وآياته وحجته إنما نشأ عن سجيتهم من الكبر وتطبعهم . فالعلو بمعنى : التكبر والجبروت . وسيجيء بيانه عند قوله : إن فرعون علا في الأرض في سورة القصص . وبين ذلك بالتفريع بقوله : فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فهو متفرع على قوله : ( فاستكبروا ) ، أي : استكبر فرعون وملؤه عن اتباع موسى وهارون ، فأفصحوا عن سبب استكبارهم عن ذلك بقولهم : أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون . وهذا ليس من قول فرعون ولكنه قول بعض الملأ لبعض ، ولما كانوا قد تراضوا عليه نسب إليهم جميعا . وأما فرعون فكان مصغيا لرأيهم ومشورتهم وكان له قول آخر حكي في قوله تعالى : وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فإن فرعون كان معدودا في درجة الآلهة ; لأنه وإن كان بشرا في الصورة لكنه اكتسب الإلهية بأنه ابن الآلهة .
والاستفهام في ( أنؤمن ) إنكاري ، أي : ما كان لنا أن نؤمن بهما وهما مثلنا في البشرية وليسا بأهل لأن يكونا ابنين للآلهة ; لأنهما جاءا بتكذيب إلهية الآلهة ، فكان ملأ فرعون لضلالهم يتطلبون لصحة الرسالة عن الله أن يكون الرسول مباينا للمرسل إليهم ، فلذلك كانوا يتخيلون آلهتهم أجناسا غريبة مثل جسد آدمي ورأس بقرة أو رأس طائر أو رأس ابن آوى أو جسد أسد ورأس آدمي ، ولا يقيمون وزنا لتباين مراتب النفوس والعقول وهي أجدر بظهور التفاوت ; لأنها قرارة الإنسانية . وهذه الشبهة هي سبب ضلالة أكثر الأمم الذين أنكروا رسلهم .
واللام في قوله : ( لبشرين ) لتعدية فعل ( نؤمن ) . يقال للذي يصدق المخبر فيما أخبر به : آمن له ، فيعدى فعل ( آمن ) باللام على اعتبار أنه [ ص: 65 ] صدق بالخبر لأجل المخبر ، أي : لأجل ثقته في نفسه . فأصل هذه اللام لام العلة والأجل . ومنه قوله تعالى : فآمن له لوط وقوله : وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون . وأما تعدية فعل الإيمان بالباء فإنها إذا علق به ما يدل على الخبر تقول : آمنت بأن الله واحد . وبهذا ظهر الفرق بين قولك : آمنت بمحمد وقولك : آمنت لمحمد . فمعنى الأول : أنك صدقت شيئا . ولذلك لا يقال : آمنت لله وإنما يقال : آمنت بالله . وتقول : آمنت بمحمد وآمنت لمحمد . ومعنى الأول يتعلق بذاته وهو الرسالة ومعنى الثاني أنك صدقته فيما جاء به .
و ( مثلنا ) وصف ( لبشرين ) وهو مما يصح التزام إفراده وتذكيره دون نظر إلى مخالفة صيغة موصوفه كما هنا . ويصح مطابقته لموصوفه كما في قوله تعالى : إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم .
وهذا طعن في رسالتهما من جانب حالهما الذاتي ثم أعقبوه بطعن من جهة منشئهما وقبيلهما فقالوا : وقومهما لنا عابدون ، أي : وهم من فريق هم عباد لنا وأحط منا فكيف يسوداننا .
وقوله : ( عابدون ) جمع عابد ، أي : مطيع خاضع . وقد كانت بنو إسرائيل خولا للقبط وخدما لهم قال تعالى : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل .
وتفرع على قولهم التصميم على تكذيبهم إياهما المحكي بقوله : فكذبوهما أي : أرسي أمرهم على أن كذبوهما ، ثم فرع على تكذيبهم أن كانوا من المهلكين إذ أهلكهم الله بالغرق ، أي : فانتظموا في سلك الأقوام الذين أهلكوا . وهذا أبلغ من أن يقال : فأهلكوا ، كما مر بنا غير مرة .
والتعقيب هنا تعقيب عرفي ; لأن الإغراق لما نشأ عن التكذيب فالتكذيب مستمر إلى حين الإهلاك .
وفي هذا تعريض بتهديد قريش على تكذيبهم رسولهم صلى الله عليه وسلم ; لأن في قوله : من المهلكين إيماء إلى أن الإهلاك سنة الله في الذين يكذبون رسله .