يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم .
[ ص: 68 ] يتعين تقدير قول محذوف اكتفاء بالمقول ، وهو استئناف ابتدائي ، أي : قلنا : يا أيها الرسل كلوا . والمحكي هنا حكي بالمعنى ; لأن الخطاب المذكور هنا لم يكن موجها للرسل في وقت واحد بضرورة اختلاف عصورهم . فالتقدير : قلنا لكل رسول ممن مضى ذكرهم : كل من الطيبات واعمل صالحا إني بما تعمل عليم .
وذلك على طريقة التوزيع لمدلول الكلام وهي شائعة في خطاب الجماعات . ومنه : ركب القوم دوابهم .
والغرض من هذا بيان كرامة الرسل عند الله ونزاهتهم في أمورهم الجسمانية والروحانية ، فالأكل من الطيبات نزاهة جسمية والعمل الصالح نزاهة نفسانية .
والمناسبة لهذا الاستئناف هي قوله : وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين وليحصل من ذلك الرد على اعتقاد الأقوام المعللين تكذيبهم رسلهم بعلة أنهم يأكلون الطعام كما قال تعالى في الآية السابقة : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ، وقال : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، وليبطل بذلك ما ابتدعه النصارى من الرهبانية . وهذه فوائد من الاستدلال والتعليم كان لها في هذا المكان الوقع العظيم .
والأمر في قوله : ( كلوا ) للإباحة ، وإن كان الأكل أمرا جبليا للبشر إلا أن المراد به هنا لازمه وهو إعلام المكذبين بأن الأكل لا ينافي الرسالة وأن الذي أرسل الرسل أباح لهم الأكل .
وتعليق ( من الطيبات ) بكسب الإباحة المستفادة من الأمر شرط أن يكون المباح من الطيبات ، أي : أن يكون المأكول طيبا . ويزيد في الرد على المكذبين بأن الرسل إنما يجتنبون الخبائث ولا يجتنبون ما أحل الله لهم من الطيبات . والطيبات : ما ليس بحرام ولا مكروه .
[ ص: 69 ] وعطف العمل الصالح على الأمر بأكل الطيبات إيماء إلى أن همة الرسل إنما تنصرف إلى الأعمال الصالحة ، وهذا كقوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات والمراد به ما تناولوه من الخمر قبل تحريمها . وقوله : إني بما تعملون عليم تحريض على الاستزادة من الأعمال الصالحة ; لأن ذلك يتضمن الوعد بالجزاء عنها وأنه لا يضيع منه شيء ، فالخبر مستعمل في التحريض .