جملة إن الذين يرمون المحصنات استئناف بعد استئناف قوله : إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا والكل تفصيل للموعظة التي في قوله : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين فابتدئ بوعيد العود إلى محبته ذلك وثنى بوعيد العودة إلى إشاعة القالة ، فالمضارع في [ ص: 191 ] قوله : ( يرمون ) للاستقبال . وإنما لم تعطف هذه الجملة لوقوع الفصل بينها وبين التي تناسبها بالآيات النازلة بينهما من قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان .
واسم الموصول ظاهر في إرادة جماعة وهم عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه . و ( الغافلات ) هن اللاتي لا علم لهن بما رمين به . وهذا كناية عن عدم وقوعهن فيما رمين به ; لأن الذي يفعل الشيء لا يكون غافلا عنه . فالمعنى : إن الذين عليهن ، فلا تحسب المراد الغافلات عن قول الناس فيهن . وذكر وصف ( المؤمنات ) لتشنيع قذف الذين يقذفوهن كذبا ; لأن وصف الإيمان وازع لهن عن الخنى . يرمون المحصنات كذبا
وقوله ( لعنوا ) إخبار عن لعن الله إياهم بما قدر لهم من الإثم وما شرع لهم .
واللعن : في الدنيا التفسيق ، وسلب أهلية الشهادة ، واستيحاش المؤمنين منهم ، وحد القذف . واللعن في الآخرة : الإبعاد من رحمة الله .
والعذاب العظيم : عذاب جهنم فلا جدوى في الإطالة بذكر مسألة جواز لعن المسلم المعين هنا ولا في أن المقصود بها من كان من الكفرة .
والظرف في قوله : يوم تشهد عليهم متعلق بما تعلق به الظرف المجعول خبرا للمبتدأ في قوله : ولهم عذاب عظيم . وذكر شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم للتهويل عليهم لعلهم يتقون ذلك الموقف فيتوبون .
. وشهادة الأعضاء على صاحبها من أحوال حساب الكفار
وتخصيص هذه الأعضاء بالذكر مع أن الشهادة تكون من جميع الجسد كما قال تعالى : وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ; لأن لهذه الأعضاء عملا في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف .
[ ص: 192 ] وقرأ حمزة والكسائي وخلف ( يشهد عليهم ) بالتحتية ، وذلك وجه في الفعل المسند إلى ضمير جمع تكسير .
وقوله : يومئذ يوفيهم الله دينهم استئناف بياني ; لأن ذكر شهادة الأعضاء يثير سؤالا عن آثار تلك الشهادة فيجاب بأن أثرها أن يجازيهم الله على ما شهدت به أعضاؤهم عليهم . فدينهم جزاؤهم كما في قوله ( ملك يوم الدين ) .
و ( الحق ) نعت للدين ، أي الجزاء العادل الذي لا ظلم فيه ، فوصف بالمصدر للمبالغة .
وقوله : ويعلمون أن الله هو الحق المبين أي ينكشف للناس أن الله الحق . ووصف الله بأنه ( الحق ) وصف بالمصدر لإفادة تحقق اتصافه بالحق ، كقول الخنساء :
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار
وصفة الله بأنه ( الحق ) بمعنيين :أولهما : بمعنى الثابت الحاق ، وذلك لأن وجوده واجب فذاته حق متحققة لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء ، فلا يقبل إمكان العدم . وعلى هذا المعنى في اسمه تعالى ( الحق ) اقتصر في شرح الأسماء الحسنى . الغزالي
وثانيهما : معنى أنه ذو الحق ، أي العدل وهو الذي يناسب وقوع الوصف بعد قوله : ( دينهم الحق ) . وبه فسر صاحب الكشاف فيحتمل أنه أراد تفسير معنى الحق هنا ، أي وصف الله بالمصدر وليس مراده تفسير الاسم وهذا الذي درج عليه ابن برجان الإشبيلي في كتابه شرح الأسماء الحسنى والقرطبي في التفسير .
[ ص: 193 ] و ( الحق ) من أسماء الله الحسنى . ولما وصف بالمصدر زيد وصف المصدر بـ ( المبين ) . والمبين : اسم فاعل من أبان الذي يستعمل متعديا بمعنى أظهر على أصل معنى إفادة الهمزة التعدية ، ويستعمل بمعنى بان ، أي ظهر على اعتبار الهمزة زائدة ، فلك أن تجعله وصفا لـ ( الحق ) بمعنى العدل كما صرح به الكشاف ، أي الحق الواضح . ولك أن تجعله وصفا لله تعالى بمعنى أن الله مبين وهاد . وإلى هذا نحا القرطبي وابن برجان فقد أثبتا في عداد أسمائه تعالى اسم ( المبين ) .
فإن كان وصف الله بـ ( الحق ) بالمعنى المصدري فالحصر المستفاد من ضمير الفصل ادعائي لعدم الاعتداد بالحق الذي يصدر من غيره من الحاكمين ; لأنه وإن يصادف المحز فهو مع ذلك معرض للزوال وللتقصير وللخطأ ، فكأنه ليس بحق أو ليس بمبين . وإن كان الخبر عن الله بأنه ( الحق ) بالمعنى الاسمي لله تعالى فالحصر حقيقي ; إذ ليس اسم الحق مسمى به غير ذات الله تعالى ، فالمعنى : أن الله هو صاحب هذا الاسم كقوله تعالى : هل تعلم له سميا . وعلى هذين الوجهين يجري الكلام في وصفه تعالى بـ ( المبين ) .
ومعنى كونهم يعلمون أن الله هو الحق المبين : أنهم يتحققون ذلك يومئذ بعلم قطعي لا يقبل الخفاء ولا التردد وإن كانوا عالمين ذلك من قبل ; لأن الكلام جار في موعظة المؤمنين; ولكن نزل علمهم المحتاج للنظر والمعرض للخفاء والغفلة منزلة عدم العلم .
ويجوز أن يكون المراد بـ الذين يرمون المحصنات الغافلات خصوص عبد الله بن أبي ابن سلول ومن يتصل به من المنافقين المبطنين الكفر ، بله الإصرار على ذنب الإفك ; إذ لا توبة لهم فهم مستمرون على الإفك فيما بينهم ; لأنه زين عند أنفسهم ، فلم يروموا الإقلاع عنه في بواطنهم مع علمهم بأنه اختلاق منهم; لكنهم لخبث طواياهم يجعلون الشك الذي خالج أنفسهم بمنزلة اليقين ، فهم ملعونون عند الله في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم في الآخرة ، ويعلمون أن الله الحق المبين فيما كذبهم فيه من حديث الإفك ، وقد كانوا من قبل [ ص: 194 ] مبطنين الشرك مع الله فجاعلين الحق ثابتا لأصنامهم ، فالقصر حينئذ إضافي ، أي : يعلمون أن الله وحده دون أصنامهم .
ويجوز أن يكون المراد بـ ( الذين يرمون المحصنات الغافلات ) عبد الله بن أبي ابن سلول وحده فعبر عنه بلفظ الجمع لقصد إخفاء اسمه تعريضا به ، كما في قوله تعالى : الذين قال لهم الناس وقول النبيء صلى الله عليه وسلم : . ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله