[ ص: 245 ] تردد المفسرون في تعلق الجار والمجرور من قوله : ( في بيوت ) إلخ . فقيل : قوله : ( في بيوت ) من تمام التمثيل ، أي فيكون ( في بيوت ) متعلقا بشيء مما قبله . فقيل : يتعلق بقوله : ( يوقد ) ، أي : يوقد المصباح في بيوت . وقيل : هو صفة لمشكاة ، أي مشكاة في بيوت وما بينهما اعتراض; وإنما جاء بيوت بصيغة الجمع مع أن ( مشكاة ) و ( مصباح ) مفردان ; لأن المراد بها الجنس فتساوى الإفراد والجمع .
ثم قيل : أريد بالبيوت المساجد . ولا يستقيم ذلك ; إذ لم يكن في مساجد المسلمين يومئذ مصابيح وإنما أحدثت المصابيح في المساجد الإسلامية في خلافة عمر بن الخطاب فقال له علي : نور الله مضجعك يا ابن الخطاب كما نورت مسجدنا . وروي أن تميما الداري أسرج المسجد النبوي بمصابيح جاء بها من الشام ولكن إنما أسلم تميم سنة تسع ، أي بعد نزول هذه الآية . وقيل : البيوت مساجد بيت المقدس وكانت يومئذ بيعا للنصارى . ويجوز عندي على هذا الوجه أن يكون المراد بالبيوت صوامع الرهبان وأديرتهم وكانت معروفة في بلاد العرب في طريق الشام يمرون عليها وينزلون عندها في ضيافة رهبانها . وقد ذكر صاحب القاموس عددا من الأديرة . ويرجح هذا قوله : ( أن ترفع ) فإن الصوامع كانت مرفوعة والأديرة كانت تبنى على رءوس الجبال . أنشد الفراء :
لو أبصرت رهبان دير بالجبل لانحدر الرهبان يسعى ويصل
والمراد بإذن الله برفعها أنه ألهم متخذيها أن يجعلوها عالية وكانوا صالحين يقرءون الإنجيل فهو كقوله تعالى : لهدمت صوامع وبيع إلى قوله : يذكر فيها اسم الله كثيرا . وعبر بالإذن دون الأمر ; لأن الله لم يأمرهم باتخاذ الأديرة [ ص: 246 ] في أصل النصرانية ، ولكنهم أحدثوها للعون على الانقطاع للعبادة باجتهاد منهم ، فلم ينههم الله عن ذلك إذ لا يوجد في أصل الدين ما يقتضي النهي عنها فكانت في قسم المباح ، فلما انضم إلى إباحة اتخاذها نية العون على العبادة صارت مرضية لله تعالى . وهذا كقوله تعالى : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله . وقد كان اجتهاد أحبار الدين في النصرانية وإلهامهم دلائل تشريع لهم كما تقتضيه نصوص من الإنجيل . والمقصد من ذكر هذا على هذه الوجوه زيادة إيضاح المشبه به كقول النبيء صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : فإذا لها كلاليب مثل حسك السعدان هل رأيتم حسك السعدان ؟ وفيه مع ذلك تحسين المشبه به ليسري ذلك إلى تحسين المشبه كما في قول كعب بن زهير :
شجت بذي شبم من ماء محنية صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه من صوب سارية بيض يعاليل
وتخصيص التسبيح بالرجال ; لأن الرهبان كانوا رجالا .
وأريد بالرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله : الرهبان الذين انقطعوا للعبادة وتركوا الشغل بأمور الدنيا ، فيكون معنى لا تلهيهم تجارة ولا بيع : أنهم لا تجارة لهم ولا بيع من شأنهما أن يلهياهم عن ذكر الله ، فهو من باب :
على لاحب لا يهتدى بمناره
والثناء عليهم يومئذ ; لأنهم كانوا على إيمان صحيح ; إذ لم تبلغهم يومئذ دعوى الإسلام ، ولم تبلغهم إلا بفتوح مشارف الشام بعد غزوة تبوك ، وأما كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فإنه لم يذع في العامة . وكان الرهبان يتركون الكوى مفتوحة ليظهر ضوء صوامعهم ، وقد كان العرب يعرفون صوامع الرهبان وأضواءها في الليل . قال امرؤ القيس :
تضيء الظلام بالعشي كأنها منارة ممسى راهب متبتل
يضيء سناه أو مصابيح راهب آمال السليط بالذبال المفتل
والسليط : الزيت ، أي صب الزيت على الذبال . فهو في تلك الحالة أكثر إضاءة . وكانوا يهتدون بها في أسفارهم ليلا . وقال امرؤ القيس :
سموت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال
وقيل : أريد بالرفع الرفع المعنوي وهو التعظيم والتنزيه عن النقائص ، فالإذن حينئذ بمعنى الأمر .
وبعد ، فهذا يبعد عن أغراض القرآن وخاصة المدني منه ; لأن الثناء على هؤلاء الرجال ثناء جم ومعقب بقوله : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا .
والأظهر عندي : أن قوله : ( في بيوت ) ظرف مستقر هو حال من ( نوره ) في قوله : مثل نوره كمشكاة إلخ مشير إلى أن ( نور ) في قوله : ( مثل نوره ) مراد منه القرآن ، فيكون هذا الحال تجريدا للاستعارة التمثيلية بذكر ما يناسب الهيئة المشبهة أعني هيئة تلقي القرآن وقراءته وتدبره بين المسلمين مما أشار إليه قول النبيء صلى الله عليه وسلم : وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ، فكان هذا التجريد رجوعا إلى حقيقة التركيب الدال على الهيئة المشبهة كقول طرفة :
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادف مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
[ ص: 248 ] ويجوز أن يكون ( في بيوت ) غير مرتبط بما قبله ، وأنه مبدأ استئناف ابتدائي وأن المجرور متعلق بقوله : ( يسبح له فيها ) . وتقديم المجرور للاهتمام بتلك البيوت وللتشويق إلى متعلق المجرور وهو التسبيح وأصحابه . والتقدير : يسبح لله رجال في بيوت ، ويكون قوله ( فيها ) تأكيدا لقوله ( في بيوت ) لزيادة الاهتمام بها . وفي ذلك تنويه بالمساجد وإيقاع الصلاة والذكر فيها كما في الحديث : صلاة أحدكم في المسجد أي الجماعة تفضل صلاته في بيته بسبع وعشرين درجة .
والمراد بالغدو : وقت الغدو وهو الصباح ; لأنه وقت خروج الناس في قضاء شئونهم .
والآصال : جمع أصيل وهو آخر النهار ، وتقدم في آخر الأعراف وفي سورة الرعد .
والمراد بالرجال : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان مثلهم في التعلق بالمساجد .
وتخصيص التسبيح بالرجال على هذا ; لأنهم الغالب على المساجد كما في الحديث . . . ورجل قلبه معلق بالمساجد . . . .
ويجوز عندي أن يكون ( في بيوت ) خبرا مقدما ( ورجال ) مبتدأ ، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله : يهدي الله لنوره من يشاء فيسأل السائل في نفسه عن تعيين بعض ممن هداه الله لنوره فقيل : رجال في بيوت . والرجال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والبيوت مساجد المسلمين وغيرها من بيوت الصلاة في أرض الإسلام والمسجد النبوي ومسجد قباء بالمدينة ومسجد جؤاثى بالبحرين .
ومعنى ( لا تلهيهم تجارة ) أنهم لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن الصلوات وأوقاتها في المساجد . فليس في الكلام أنهم لا يتجرون ولا يبيعون بالمرة .
[ ص: 249 ] والتجارة : جلب السلع للربح في بيعها ، والبيع أعم وهو أن يبيع أحد ما يحتاج إلى ثمنه .
وقرأ الجمهور ( يسبح ) بكسر الموحدة بالبناء للفاعل و ( رجال ) فاعله . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح الموحدة على البناء للمجهول فيكون نائب الفاعل أحد المجرورات الثلاثة وهي ( له فيها بالغدو ) ويكون ( رجال ) فاعلا بفعل محذوف من جملة هي استئناف . ودل على المحذوف قوله ( يسبح ) كأنه قيل : من يسبحه ؟ فقيل : يسبح له رجال . على نحو قول نهشل بن حري يرثي أخاه يزيد :
ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
وجملة ( لا تلهيهم تجارة ) وجملة ( يخافون ) صفتان لـ ( رجال ) ، أي لا يشغلهم ذلك عن أداء ما وجب عليهم من خوف الله ( وإقام الصلاة ) إلخ وهذا تعريض بالمنافقين .
و ( إقام ) مصدر على وزن الإفعال . وهو معتل العين فاستحق نقل حركة عينه إلى الساكن الصحيح قبله وانقلاب حرف العلة ألفا ، إلا أن الغالب في نظائره أن يقترن آخره بهاء تأنيث نحو إدامة واستقامة . وجاء مصدر ( إقام ) غير مقترن بالهاء في بعض المواضع كما هنا . وتقدم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة .
وانتصب ( يوما ) من قوله : ( يخافون يوما ) على المفعول به لا على الظرف بتقدير مضاف ، أي يخافون أهواله .
وتقلب القلوب والأبصار : اضطرابها عن مواضعها من الخوف والوجل كما يتقلب المرء في مكانه . وقد تقدم في قوله تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في سورة الأنعام . والمقصود من خوفه : العمل لما فيه الفلاح يومئذ كما يدل عليه قوله ليجزيهم الله أحسن ما عملوا .
[ ص: 250 ] ويتعلق قوله : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا بـ ( يخافون ) ، أي كان خوفهم سببا للجزاء على أعمالهم الناشئة عن ذلك الخوف .
والزيادة : من فضله هي زيادة أجر الرهبان إن آمنوا بمحمد صلى على الله عليه وسلم حينما تبلغهم دعوته لما في الحديث الصحيح : أن لهم أجرين ، أو هي زيادة فضل الصلاة في المساجد إن كان المراد بالبيوت مساجد الإسلام .
وجملة والله يرزق من يشاء بغير حساب تذييل لجملة ( ليجزيهم الله ) . وقد حصل التذييل لما في قوله : ( من يشاء ) من العموم ، أي وهم ممن يشاء الله لهم الزيادة .
والحساب هنا بمعنى التحديد كما في قوله : إن الله يرزق من يشاء بغير حساب في سورة آل عمران . وأما قوله : جزاء من ربك عطاء حسابا فهو بمعنى التعيين والإعداد للاهتمام بهم .


