انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان قد يظن أنها تنافي عبادة الصيام ، ولأجل هذا الانتقال فصلت الجملة عن الجمل السابقة .
وذكروا لسبب نزول هذه الآية كلاما مضطربا غير مبين ، فروى أبو داود ، عن كان المسلمون إذا نام أحدهم إذا صلى العشاء وسهر بعدها لم يأكل ولم يباشر أهله بعد ذلك فجاء معاذ بن جبل : عمر يريد امرأته فقالت : إني قد نمت فظن أنها تعتل فباشرها ، وروى عن البخاري البراء [ ص: 181 ] بن عازب أن قيس بن صرمة جاء إلى منزله بعد الغروب يريد طعامه فقالت له امرأته : حتى نسخن لك شيئا فنام فجاءت امرأته فوجدته نائما ، فقالت : خيبة لك ، فبقي كذلك فلما انتصف النهار أغمي عليه من الجوع ، وفي كتاب التفسير من صحيح عن حديث البخاري قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى : البراء بن عازب علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم الآية ، ووقع مثل ما وقع لكعب بن مالك لعمر ، فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث ، فقيل : ، وهذا قول جمهور المفسرين ، وأنكر كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم أو من بعد صلاة العشاء حكما مشروعا بالسنة ثم نسخ أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نسخا لشيء تقرر في شرعنا وقال : هو نسخ لما كان في شريعة النصارى .
وما شرع الصوم إلا إمساكا في النهار دون الليل فلا أحسب أن الآية إنشاء للإباحة ، ولكنها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنهار ، والمقصود منها إبطال شيء توهمه بعض المسلمين وهو أن الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين ؛ ، وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء ؛ لأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلا أكلة السحور وأنهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي ظنوا أن النوم إن حصل في غير إبانه المعتاد يكون أيضا مانعا من الأكل والجماع إلى وقت السحور ، وإن وقت السحور لا يباح فيه إلا الأكل دون الجماع ؛ إذ كانوا يتأثمون من الإصباح في رمضان على جنابة ، وقد جاء في صحيح وقت الإفطار ووقت السحور مسلم أن كان يرى ذلك يعني بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لعل هذا قد سرى إليهم من أبا هريرة أهل الكتاب كما يقتضيه ما رواه من طريق محمد بن جرير ، ولعلهم التزموا ذلك ولم يسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولعل ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السنة التي شرع لها صيام رمضان ، فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة ، وذكر السدي ابن العربي في العارضة ، عن ابن القاسم ، عن مالك : كان في أول الإسلام من رقد قبل أن يطعم لم يطعم من الليل شيئا فأنزل الله فالآن باشروهن فأكلوا بعد ذلك ، فقوله تعالى : ( علم الله ) دليل على أن القرآن نزل بهذا الحكم [ ص: 182 ] لزيادة البيان ؛ إذ علم الله ما ضيق به بعض المسلمين على أنفسهم وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم . وهذا يشير إلى أن المسلمين لم يفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله ولذلك لا نجد في روايات البخاري أن الناس ذكروا ذلك لرسول الله إلا في حديث والنسائي قيس بن صرمة عند أبي داود ولعله من زيادات الراوي .
فأما أن يكون ذلك قد شرع ثم نسخ فلا أحسبه ؛ إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أول مرة يوما في السنة ثم درجه فشرع الصوم شهرا على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفا على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلا ونهارا فلا يبيح الفطر إلا ساعات قليلة من الليل .
وليلة الصيام : الليلة التي يعقبها صيام اليوم الموالي لها جريا على استعمال العرب في إضافة الليلة لليوم الموالي لها إلا ليلة عرفة ، فإن المراد بها الليلة التي بعد يوم عرفة .
والرفث في الأساس واللسان : أن حقيقته الكلام مع النساء في شئون الالتذاذ بهن ، ثم أطلق على الجماع كناية ، وقيل هو حقيقة فيهما وهو الظاهر ، وتعديته بـ ( إلى ) ليتعين المعنى المقصود وهو الإفضاء ، وقول : هن لباس لكم جملة مستأنفة كالعلة لما قبلها أي : أحل لعسر الاحتراز عن ذلك .
ذلك أن الصوم لو فرض على الناس في الليل وهو وقت الاضطجاع لكان الإمساك عن قربان النساء في ذلك الوقت عنتا ومشقة شديدة ليست موجودة في الإمساك عن قربانهن في النهار ؛ لإمكان الاستعانة عليه في النهار بالبعد عن المرأة ، فقوله تعالى : هن لباس لكم استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذ وهي استعارة أحياها القرآن ، لأن العرب كانت اعتبرتها في قولهم : لابس الشيء الشيء ، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص زنة المفاعلة حقيقة عرفية ، فجاء القرآن فأحياها وصيرها استعارة أصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية ، وقريب منها قول امرئ القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
و ( تختانون ) قال الراغب : الاختيان ، مراودة الخيانة بمعنى أنه افتعال من الخون ، وأصله تختونون فصارت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأن ذلك تغرير بها ؛ إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة ، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرما عليكم فتقدمون تارة [ ص: 183 ] وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة ، فيكون كالتمثيل في قوله تعالى : " يخادعون الله " .والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها ، وقيل : الاختيان أشد من الخيانة كالاكتساب والكسب كما في الكشاف ، قلت : وهو استعمال كما قال تعالى : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم .
وقوله تعالى : فالآن باشروهن الأمر للإباحة ، وليس معنى قوله : ( فالآن ) إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذ بل معناه : فالآن اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم ، والابتغاء الطلب ، وما كتبه الله : ما أباحه من مباشرة النساء في غير وقت الصيام أو اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد تحريضا للناس على مباشرة النساء عسى أن يتكون النسل من ذلك ، وذلك لتكثير الأمة وبقاء النوع في الأرض .