عطف على جملة ( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) أي : هذه شنشنتهم ، فلا تأسف لعدم إيمانهم بآيات الكتاب المبين ، وما يجيئهم منها من بعد فسيعرضون عنه ؛ لأنهم عرفوا بالإعراض .
والمضارع هنا لإفادة التجدد والاستمرار . فالذكر هو القرآن ؛ لأنه تذكير للناس بالأدلة . وقد تقدم وجه تسميته ذكرا عند قوله تعالى : ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) في سورة الحجر .
والمحدث : الجديد ، أي : من ذكر بعد ذكر يذكرهم بما أنزل من القرآن من قبله ، فالمعنى المستفاد من وصفه بالمحدث غير المعنى المستفاد من إسناد صيغة المضارع في قوله : ( ما يأتيهم من ذكر ) . فأفاد الأمران أنه ذكر متجدد مستمر ، وأن بعضه يعقب بعضا ويؤيده . وقد تقدم في سورة الأنبياء قوله : [ ص: 98 ] ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم ) .
وذكر اسم الرحمن هنا دون وصف الرب كما في سورة الأنبياء ؛ لأن السياق هنا لتسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - على إعراض قومه فكان في وصف مؤتي الذكر بالرحمن تشنيع لحال المعرضين وتعريض لغباوتهم أن يعرضوا عما هو رحمة لهم ، فإذا كانوا لا يدركون صلاحهم ، فلا تذهب نفسك حسرات على قوم أضاعوا نفعهم ، وأنت قد أرشدتهم إليه وذكرتهم كما قال المثل : ( لا يحزنك دم هراقه أهله ) وقال النابغة :
فإن تغلب شقاوتكم عليكم فإني في صلاحكم سعيت
وفي الإتيان بفعل ( كانوا ) وخبره دون أن يقال : إلا أعرضوا ، إفادة أن إعراضهم راسخ فيهم وأنه قديم مستمر إذ أخبر عنهم قبل ذلك بقوله : ( ألا يكونوا مؤمنين ) ، فانتفاء كون إيمانهم واقعا هو إعراض منهم عن دعوة الرسول التي طريقها الذكر بالقرآن فإذا أتاهم ذكر بعد الذكر الذي لم يؤمنوا بسببه وجدهم على إعراضهم القديم .و ( من ) في قوله ( من ذكر ) مؤكدة لعموم نفي الأحوال .
و ( من ) التي في قوله : ( من الرحمن ) ابتدائية .
والاستثناء من أحوال عامة فجملة ( كانوا عنه معرضين ) في موضع الحال من ضمير ( يأتيهم من ذكر ) . وتقدم المجرور لرعاية الفاصلة .