ومفاتحة العظماء بالتمجيد عند التوجه إليهم قبل أن يخاطبوا طريقة عربية .
روى [ ص: 178 ] أبو الفرج الأصفهاني عن قال : كنت عند حسان بن ثابت النعمان فنادمته وأكلت معه فبينا أنا على ذلك معه في قبة إذا رجل يرتجز حولها :
أصم أم يسمع رب القبه يا أوهب الناس لعيس صلبه ضرابة بالمشغر الأذبه
ذات هباب في يديها خلبه في لاحب كأنه الأطبه
والانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدأ من قوله " الحمد لله " إلى قوله ملك يوم الدين ، إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداء من قوله إياك نعبد إلى آخر السورة ، فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند العرب ، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتا . وفي ضابط أسلوب الالتفات رأيان لأئمة علم البلاغة : أحدهما رأي من عدا السكاكي من أئمة البلاغة وهو أن المتكلم بعد أن يعبر عن ذات بأحد طرق ثلاثة من تكلم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبر عن تلك الذات بطريق آخر من تلك الثلاثة ، وخالفهم السكاكي فجعل مسمى الالتفات أن يعبر عن ذات بطريق من طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة عادلا عن أحدهما الذي هو الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها .
ويظهر أثر الخلاف بين الجمهور والسكاكي في المحسن الذي يسمى بالتجريد في علم البديع مثل قول علقمة بن عبدة في طالع قصيدته :
طحا بك قلب في الحسان طروب
مخاطبا نفسه على طريقة التجريد ، فهذا ليس بالتفات عند الجمهور وهو معدود من الالتفات عند السكاكي ، فتسمية الالتفات التفاتا على رأي الجمهور باعتبار أن عدول المتكلم عن الطريق الذي سلكه إلى طريق آخر يشبه حالة الناظر إلى شيء ثم يلتفت عنه ، وأما تسميته التفاتا على رأي السكاكي فتجري على اعتبار الغالب من صور الالتفات دون صورة التجريد ، ولعل السكاكي التزم هذه التسمية لأنها تقررت من قبله فتابع هو الجمهور في هذا الاسم . ومما يجب [ ص: 179 ] التنبه له أن الاسم الظاهر معتبر من قبيل الغائب على كلا الرأيين ، ولذلك كان قوله تعالى " إياك نعبد " التفاتا على كلا الرأيين لأن ما سبق من أول السورة إلى قوله : " إياك نعبد " تعبير بالاسم الظاهر وهو اسم الجلالة وصفاته . ولأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديد أسلوب التعبير عن المعنى بعينه تحاشيا من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل من إعادة أسلوب بعينه .قال السكاكي في المفتاح بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات : أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطعم وطعم ولا يحسنون قرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب . فهذه فائدة مطردة في الالتفات . ثم إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالبا بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصه .
وما هنا التفات بديع فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به الفكرة منتهاها فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال ، كعكس هذا الالتفات في قول محمد بن بشير الخارجي نسبة إلى بني خارجة قبيلة :
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجة تولى سواكم أجرها واصطناعها
أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة عصاها وإن همت بشر أطاعها
وبعكس ذلك قوله تعالى والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي لاعتبار تشنيع كفر المتحدث عنهم بأنهم كفروا بآيات صاحب ذلك الاسم الجليل ، وبعد تقرر ذلك انتقل إلى أسلوب ضمير المتكلم إذ هو الأصل في التعبير عن الأشياء المضافة إلى ذات المتكلم .
ومما يزيد الالتفات وقعا في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله إياك نعبد تخلصا يجيء بعده اهدنا الصراط ونظيره في ذلك قول النابغة في رثاء النعمان الغساني :
أبى غفلتي أني إذا ما ذكرته تحرك داء في فؤادي داخل
[ ص: 180 ] وأن تلادي إن نظرت وشكتي ومهري وما ضمت إلي الأنامل
حباؤك والعيس العتاق كأنها هجان المهى تزجى عليها الرحائل
و " إياك " ضمير خطاب في حالة النصب والأظهر أن كلمة " إيا " جعلت ليعتمد عليها الضمير عند انفصاله ولذلك لزمتها الضمائر نحو : إياي تعني ، وإياك أعني ، وإياهم أرجو . ومن هنالك التزم في التحذير لأن الضمير انفصل عند التزام حذف العامل .
ومن النحاة من جعل إيا ضميرا منفصلا ملازما حالة واحدة وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد . ومنهم من جعل ( إيا ) هو الضمير وجعل ما بعده حروفا لبيان الضمير . ومنهم من جعل ( إيا ) اعتمادا للضمير كما كانت أي اعتمادا للمنادى الذي فيه ( ال ) . ومنهم من جعل ( إيا ) اسما ظاهرا مضافا للمضمرات . والعبادة فعل يدل على الخضوع أو التعظيم الزائدين على المتعارف بين الناس . وأما إطلاقها على الطاعة فهو مجاز .
والعبادة في الشرع أخص فتعرف بأنها فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب ، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه ، وقال الرازي في تفسير قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون العبادة تعظيم أمر الله والشفقة على الخلق .
وهذا المعنى هو الذي اتفقت عليه الشرائع وإن اختلفوا في الوضع والهيئة والقلة والكثرة ا هـ فهي بهذا التفسير تشمل الامتثال لأحكام الشريعة كلها .
وقد فسر الصوفية . والعبودية بالرضا بما يفعل الرب . فهي أقوى . وقال بعضهم : العبودية الوفاء بالعهود ، وحفظ الحدود ، والرضا بالموجود . والصبر على المفقود ، وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها . العبادة بأنها فعل ما يرضي الرب
قال الفخر ثلاث : الأولى أن يعبد الله طمعا في الثواب وخوفا من العقاب وهي العبادة ، وهي درجة نازلة ساقطة لأنه جعل الحق وسيلة لنيل المطلوب . مراتب العبادة
الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته والانتساب إليه بقبول تكاليفه وهي أعلى من الأولى إلا [ ص: 181 ] أنها ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله . الثالثة أن يعبد الله لكونه إلها خالقا مستحقا للعبادة وكونه هو عبدا له ، وهذه أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية اهـ .
قلت ولم يسم الإمام المرتبة الثالثة باسم والظاهر أنها ملحقة في الاسم بالمرتبة الثالثة أعني العبودية لأن الشيخ قال في الإشارات " العارف يريد الحق لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئا على عرفانه وتعبده له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة اهـ . فجعلهما حالة واحدة . ابن سينا
وما ادعاه الفخر في سقوط الدرجة الأولى ونزول مرتبتها قد غلب عليه فيه اصطلاح غلاة الصوفية وإلا فإن ، وهي التي عليها جمهور المؤمنين وهي غاية التكليف ، كيف وقد قال تعالى العبادة للطمع والخوف هي التي دعا إليها الإسلام في سائر إرشاده إنما يخشى الله من عباده العلماء فإن بلغ المكلف إلى المرتبتين الأخريين فذلك فضل عظيم وقليل ما هم ، على أنه لا يخلو من ملاحظة الخوف والطمع في أحوال كثيرة ، نعم إن أفاضل الأمة متفاوتون في الاحتياج إلى التخويف والإطماع بمقدار تفاوتهم في العلم بأسرار التكليف ومصالحه وتفاوتهم في التمكن من مغالبة نفوسهم ، ومع ذلك لا محيص لهم عن الرجوع إلى الخوف في أحوال كثيرة والطمع في أحوال أكثر .
وأعظم دليل على ما قلنا أن الله تعالى مدح في كتابه المتقين في مواضع جمة ودعا إلى التقوى ، وهل التقوى إلا كاسمهما بمعنى الخوف والاتقاء من غضب الله قال تعالى ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا والمرتبة الثالثة هي التي أشار لها قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن قال له كيف تجهد نفسك في العبادة وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال لأن من الظاهر أن الشكر هنا على نعمة قد حصلت فليس فيه حظ للنفس بالطمع في المزيد لأن الغفران العام قد حصل له فصار الشكر لأجل المشكور لا غير وتمحض أنه لا لخوف ولا طمع . أفلا أكون عبدا شكورا
[ ص: 182 ] واعلم أن من أهم المباحث البحث عن وذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم ليكون مظهرا لكمال صفاته تعالى : الوجود ، والعلم ، والقدرة . وجعل قبول الإنسان للكمالات التي بمقياسها يعلم نسبة مبلغ علمه وقدرته من علم الله تعالى وقدرته ، وأودع فيه الروح والعقل اللذين بهما يزداد التدرج في الكمال ليكون غير قانع بما بلغه من المراتب في أوج الكمال والمعرفة ، وأرشده وهداه إلى ما يستعين به على مرامه ليحصل له بالارتقاء العاجل رقي آجل لا يضمحل ، وجعل استعداده لقبول الخيرات كلها عاجلها وآجلها متوقفا على التلقين من السفرة الموحى إليهم بأصول الفضائل . سر العبادة وتأثيرها وسر مشروعيتها لنا
ولما توقف ذلك على مراقبة النفس في نفراتها وشرداتها وكانت تلك المراقبة تحتاج إلى تذكر المجازي بالخير وضده ، شرعت العبادة لتذكر ذلك المجازي لأن عدم حضور ذاته واحتجابه بسبحات الجلال يسرب نسيانه إلى النفوس ، كما أنه جعل نظامه في هذا العالم متصل الارتباط بين أفراده فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلا يفسد النظام ، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضا شرعت العبادة لتذكر به ، على أن في ذلك التذكر دوام الفكر في الخالق وشؤونه وفي ذلك تخلق بالكمالات تدريجا فظهر أن العبادة هي طريق الكمال الذاتي والاجتماعي مبدأ ونهاية ، وبه يتضح معنى قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فالعبادة على الجملة لا تخرج عن كونها محققة للمقصد من الخلق ، ولما كان سر الخلق والغاية منه خفية الإدراك عرفنا الله تعالى إياها بمظهرها وما يحققها جمعا لعظيم المعاني في جملة واحدة وهي جملة إلا ليعبدون وقريب من هذا التقرير الذي نحوناه وأقل منه قول الشيخ في الإشارات لما لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير وكان مما يتعسر إن أمكن ، وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفظه شرع يفرضه شارع متميز باستحقاق الطاعة ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير ، فوجب معرفة المجازي والشارع وأن يكون مع معرفة سبب حافظ للمعرفة ففرضت عليهم العبادة المذكرة للمعبود ، وكررت عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير اهـ . ابن سينا
لا شك أن التعظيم والإجلال ، وهو إما عن محبة أو عن خوف مجرد [ ص: 183 ] وأهمه ما كان عن محبة ؛ لأنه يرضي نفس فاعله قال : داعي العبادة
أهابك إجلالا وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
أنت الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون محبا غير محبوب
فكر يزدان على غرة فصيغ من تفكيره أهرمن
وزعم في إيضاح المفصل في شرح ديباجة المفصل عند قول ابن الحاجب " الله أحمد " أن التقديم لا يفيد إلا الاهتمام دون حصر وأن الزمخشري إياك نعبد " تقديم المفعول للاهتمام دون قصر وأن تمسكهم بقوله قوله تعالى : " بل الله فاعبد ضعيف لورود فاعبد الله مخلصا له الدين وإبطال رأيه مقرر في كتب علم المعاني . وأنا أرى استدلاله بورود قوله تعالى : " فاعبد الله " لا يليق بمقامه العلمي إذ لا يظن أن محامل الكلام متماثلة في كل مقام ، وإياك نستعين جملة معطوفة على جملة " إياك نعبد " وإنما لم تفصل عن جملة " إياك نعبد " بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد والتكرير كلا أو بعضا للإشارة إلى خطور الفعلين جميعا في إرادة المتكلمين بهذا التخصيص ، أي نخصك [ ص: 184 ] بالاستعانة أيضا مع تخصيصك بالعبادة . . والعون والإعانة تسهيل فعل شيء يشق ويعسر على المستعين وحده ، فهي تحصل بإعداد طريق تحصيله من إعارة آلة ، أو مشاركة بعمل البدن كالحمل والقود ، أو بقول كالإرشاد والتعليم ، أو برأي كالنصيحة . قال والاستعانة طلب العون الحريري في المقامة " وخلقي نعم العون " ، أو بمال كدفع المغرم ، بحيث يحصل الأمر بعسير من جهود المستعين والمعين .
وأما الاستعانة بالله فهي طلب المعونة على ما لا قبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده ، ولذلك فهي مشعرة بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده ، فهذه هي المعونة شرعا وقد فسرها العلماء بأنها هي خلق ما به تمام الفعل أو تيسيره ، فتنقسم قسمين ضرورية أي ما يتوقف الفعل عليها فلا يحصل بدونها أي لا يحصل بدون توفر متعلقها وهي إعطاء الاقتدار للفاعل وتصوره للفعل وحصول المادة والآلة ، ومجموع هاته الأربعة يعبر عنه بالاستطاعة ، ويعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات وبها يصح تكليف المستطيع .
القسم الثاني المعونة غير الضرورية وينبغي أن تخص باسم الإعانة وهي إيجاد المعين ما يتيسر به الفعل للمعان حتى يسهل عليه ويقرب منه كإعداد الراحلة في السفر للقادر على المشي . وبانضمام هذا المعنى للمعنى الأول تتم حقيقة التوفيق المعرف عندهم بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة ، وسمى الراغب هذا القسم الثاني بالتوفيق ولا تعارض بين كلامه وبين تعريفهم إياه لما علمت من أنه لا يحصل إلا بعد حصول المعونة بالمعنى الأول فتم التوفيق; والمقصود هنا الاستعانة على الأفعال المهمة كلها التي أعلاها تلقي الدين وكل ما يعسر على المرء تذليله من توجهات النفوس إلى الخير وما يستتبع ذلك من تحصيل الفضائل .
وقرينة هذا المقصود رسمه في فاتحة الكتاب ووقوع تخصيص الإعانة عقب التخصيص بالعبادة . ولذلك حذف متعلق نستعين الذي حقه أن يذكر مجرورا بعلى ، وقد أفاد هذا الحذف الهام عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدبا معه تعالى ، ومن توابع ذلك وأسبابه وهي المعارف والإرشادات والشرائع وأصول العلوم فكلها من الإعانة المطلوبة وكلها من الله تعالى فهو الذي ألهمنا مبادئ العلوم وكلفنا الشرائع ولقننا النطق ، قال ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين فالأول إيماء إلى طريق المعارف وأصلها المحسوسات وأعلاها المبصرات ، والثاني إيماء إلى [ ص: 185 ] النطق والبيان للتعليم ، والثالث إلى الشرائع . والحصر المستفاد من التقديم في قوله وإياك نستعين حصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس بعضهم ببعض في شئونهم ، ومعنى الحصر هنا لا نستعين على عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله تعالى .
ويفيد هذا القصر فيهما التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله على قصد التشريك إلا أن ولعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله تعالى كما عبدت سبأ الشمس وعبد الفرس النور والظلمة ، وعبد القبط العجل وألهوا الفراعنة ، وعبدت أمم السودان الحيوانات كالثعابين .
وهذا حال معظم العرب ممن عبد الأصنام أو عبد الكواكب ، فقد عبدت ومن المشركين من أشرك مع عبادة الله عبادة غيره ضبة وتيم وعكل الشمس ، وعبدت كنانة القمر ، وعبدت لخم وخزاعة وبعض قريش الشعرى وعبدت تميم الدبران ، وعبدت طيء الثريا ، وهؤلاء كلهم جعلوا الآلهة بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله تعالى ، فهؤلاء جمعوا العبادة والاستعانة بهم لأن جعلهم وسيلة إلى الله ضرب من الاستعانة ، وإنما قلنا إن استفادة الرد على المشركين ونحوهم بطريق التعريض أي بطريق عرض الكلام لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد الاعتقاد إلا تعريضا لأن معناه حاصل على الحقيقة كما أشار إليه السلكوتي في حاشية التفسير .
فإن قلت كيف أمرنا بأن لا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا به حسبما تشير إليه هذه الآية ، وقد ورد في الصحيح قال له عبد الله بن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فلم يأت بصيغة قصر ، قلت : قد ذكر الشيخ الجد قدس الله روحه في تعليقه على هذا الحديث أن ترك طريقة القصر إيماء إلى أن المقام لا يقبل الشركة وأن من حق السؤال أن لا يكون إلا لله القادر العليم . أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما علم
وقد قال علماء البلاغة إذا كان الفعل مقصورا في نفسه فارتكاب طريق القصر لغو من الكلام اهـ .
وأقول تقفية على أثره إن مقام الحديث غير مقام الآية فمقام الحديث مقام تعليم خاص لمن نشأ وشب وترجل في الإسلام فتقرر قصر الحكم لديه على طرف الثمام ولذلك استغنى عنه وأما مقام هذه الآية فمقام مفتتح الوحي والتشريع واستهلال الوعظ والتقريع ، فناسب تأكيد الحكم بالقصر مع التعريض بحال الشرك الشنيع على أن تعليق الأمر بهما في جواب الشرط على حصول أي سؤال وأية استعانة يفيد مفاد القصر تعريضا بالمشركين [ ص: 186 ] وبراءة من صنيعهم فقد كانوا يستعينون بآلهتهم . ومن ذلك الاستقسام بالأزلام الموضوعة عند الآلهة والأصنام ، وضميرا " نعبد " و " نستعين " ، يعودان إلى تالي السورة ذاكرا معه جماعة المؤمنين . وفي العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارك الدلالة على أن هذه المحامد صادرة من جماعات .
ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عزة ومنعة ، ولأنه أبلغ في الثناء من " أعبد " " وأستعين " لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضا بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله ، وقريب من هذا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني :
قعودا له غسان يرجون أوبة وترك ورهط الأعجمين وكابل
فكأن الحامد لما انتقل من الحمد إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقتنص منها الثناء إلا انتهزها .
إياك نعبد على قوله وإياك نستعين أن العبادة تقرب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة . ووجه تقديم قوله
وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك ، ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبودا للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل .
وقد حصل من ذلك التقديم أيضا إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان ، وأعيد لفظ إياك في الاستعانة دون أن يعطف فعل " نستعين " على " نعبد " مع أنهما مقصودان جميعا كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقا ، فالحصر في " إياك نعبد " حقيقي والقصر في " إياك نستعين " ادعائي فإن المسلم قد يستعين غير الله تعالى كيف وقد قال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله تعالى .