تفريع على قوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس لأن تلك الإفاضة هي الدفع من مزدلفة إلى منى أو لأنها تستلزم ذلك ، ومنى هي محل رمي الجمار ، وأشارت الآية إلى رمي جمرة العقبة يوم عاشر ذي الحجة فأمرت بأن يذكروا الله عند الرمي ، ثم الهدي بعد ذلك ، وقد تم الحج عند ذلك ، وقضيت مناسكه .
وقد أجمعوا على أن من بعد طلوع الشمس إلى الزوال ثم ينحر بعد ذلك ، ثم يأتي الحاج لا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة الكعبة فيطوف طواف الإفاضة ، وقد تم الحج وحل للحاج كل شيء إلا قربان النساء .
والمناسك جمع منسك ، مشتق من نسك نسكا من باب نصر إذا تعبد ، وقد تقدم في قوله تعالى : وأرنا مناسكنا فهو هنا مصدر ميمي أو هو اسم مكان ، والأول هو المناسب لقوله : " قضيتم " ؛ لئلا نحتاج إلى تقدير مضاف أي : عبادات مناسككم .
وقرأ الجميع : ( مناسككم ) بفك الكافين وقرأه السوسي عن أبي عمرو بإدغامهما وهو الإدغام الكبير .
[ ص: 245 ] وقوله : فاذكروا الله أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به وبالاستغفار تحضيضا عليه ، وإبطالا لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر ، فإنه يجر إلى المراء والجدال ، والمقصد أن يكون الحاج منغمسا في العبادة فعلا وقولا واعتقادا .
وقوله : كذكركم آباءكم بيان لصفة الذكر ، فالجار والمجرور نعت لمصدر محذوف أي : ذكرا كذكركم إلخ ، إشارة إلى ما كانوا عليه من الاشتغال في أيام منى بالتفاخر بالأنساب ومفاخر أيامهم ، فكانوا يقفون بين مسجد منى أي : موضعه ، وهو مسجد الخيف وبين الجبل ؛ أي : جبل منى الذي مبدؤه العقبة التي ترمى بها الجمرة فيفعلون ذلك .
وفي تفسير عن ابن جرير : كان الرجل يقوم فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته . فلا يذكر غير أبيه ، وذكر أقوالا نحوا من ذلك . السدي
والمراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير وتعمير أوقات الفراغ به ، وليس فيه ما يؤذن بالجمع بين ذكر الله وذكر الآباء .
وقوله : أو أشد ذكرا أصل أو أنها للتخيير ، ولما كان المعطوف بها في مثل ما هنا أولى بمضمون الفعل العامل في المعطوف عليه أفادت " أو " معنى من التدرج إلى أعلى ، فالمقصود أن يذكروا الله كثيرا ، وشبه أولا بذكر آبائهم تعريضا بأنهم يشتغلون في تلك المناسك بذكر لا ينفع ، وأن الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله ، فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر .
ولهذا قال أبو علي الفارسي : إن ( أو ) في مثل هذا للإضراب الانتقالي ، ونفيا اشتراط تقدم نفي أو شبهه ، واشتراط إعادة العامل . وابن جني
وعليه خرج قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون وعلى هذا فالمراد من التشبيه أولا إظهار أن الله حقيق بالذكر هنالك مثل آبائهم ، ثم بين بأن ذكر الله يكون أشد ؛ لأنه أحق بالذكر .
و ( أشد ) لا يخلو عن أن يكون معطوفا على مصدر مقدر منصوب على أنه مفعول مطلق بعد قوله : كذكركم آباءكم تقديره : فاذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم ، فتكون فتحة ( أشد ) التي في آخره فتحة نصب ، فنصبه بالعطف على المصدر المحذوف الذي دل عليه قوله : ( كذكركم ) والتقدير : [ ص: 246 ] ذكرا كذكركم آباءكم ، وعلى هذا الوجه فنصب ( ذكرا ) يظهر أنه تمييز لأشد ، وإذ قد كان " أشد " وصفا لذكر المقدر صار مآل التمييز إلى أنه تمييز الشيء بمرادفه ، وذلك ينافي القصد من التمييز الذي هو لإزالة الإبهام ، إلا أن مثل ذلك يقع في الكلام الفصيح ، وإن كان قليلا قلة لا تنافي الفصاحة اكتفاء باختلاف صورة اللفظين المترادفين ، مع إفادة التمييز حينئذ توكيد المميز ، كما حكى أنهم يقولون : هو أشح الناس رجلا ، وهما خير الناس اثنين ، وهذا ما درج عليه سيبويه في تفسيره ، قلت : وقريب منه استعمال تمييز " نعم " توكيدا في قول الزجاج جرير :
تزود مثل زاد أبيك فينا فنعم الزاد زاد أبيك زادا
ويجوز أن يكون نصب ( أشد ) على الحال من ( ذكرا ) الموالي له ، وأن أصل " أشد " نعت له ، وكان نظم الكلام : أو ذكرا أشد ، فقدم النعت فصار حالا ، والداعي إلى تقديم النعت حينئذ هو الاهتمام بوصف كونه أشد ، وليتأتى إشباع حرف الفاصلة عند الوقف عليه ، وليباعد ما بين كلمات الذكر المتكررة ثلاث مرات بقدر الإمكان .
أو أن يكون ( أشد ) معطوفا على ( ذكرا ) المجرور بالكاف من قوله : ( كذكركم ) ولا يمنع من ذلك ما قيل من امتناع العطف على المجرور بدون إعادة الجار ؛ لأن ذلك غير متفق عليه بين أئمة النحو ، فالكوفيون لا يمنعونه ووافقهم بعض المتأخرين مثل ابن مالك وعليه قراءة حمزة ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) بجر الأرحام وقد أجاز هنا وفي قوله تعالى : الزمخشري كخشية الله أو أشد خشية في سورة النساء أن يكون العطف على المجرور بالحرف بدون إعادة الجار ، وبعض النحويين جوزه فيما إذا كان الجر بالإضافة لا بالحرف كما قاله في إيضاح المفصل ، وعليه ففتحة ( أشد ) نائبة عن الكسرة ؛ لأن " أشد " ممنوع من الصرف ، وعلى هذا الوجه فانتصاب " ذكرا " على التمييز على نحو ما تقدم في الوجه الأول عن ابن الحاجب سيبويه . والزجاج
ولصاحب الكشاف تخريجان آخران لإعراب أو أشد ذكرا فيهما تعسف دعاه إليهما الفرار من ترادف التمييز والمميز ، تبعا لشيخه ولابن جني أبي علي تخريج آخر ، دعاه إليه مثل الذي دعا ، وكان تخريجه أشد تعسفا ، ذكره عنه الزمخشري ابن المنير في الانتصاف ، وسلكه في تفسير آية سورة النساء . الزمخشري
وهذه الآية من غرائب الاستعمال العربي ، ونظيرتها آية سورة النساء ، قال الشيخ [ ص: 247 ] في تفسيره : وهذه مسألة طويلة عويصة ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلا ابن عرفة ابن عبد السلام وابن الحباب وما قصر الطيبي فيها وهو الذي كشف القناع عنها هنا ، وفي قوله تعالى في سورة النساء : يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه ؛ لأني كنت عند ابن عبد السلام لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له : ننظر ما قال في أشد خشية فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس ، فحض الشيخ إذ ذاك على نسخها ا هـ .
وقوله : فمن الناس من يقول إلخ ، فقد علم السامعون أن الذكر يشمل الدعاء ؛ لأنه من ذكر الله وخاصة في مظان الإجابة من الزمان والمكان ؛ لأن القاصدين لتلك البقاع على اختلاف أحوالهم ما يقصدون إلا تيمنا ورجاء ، فكان في الكلام تقدير ، كأنه قيل : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا وادعوه . ثم أريد تفصيل الداعين للتنبيه على تفاوت الذين تجمعهم تلك المناسك ، وإنما لم يفصل الذكر الأعم من الدعاء ؛ لأن الذكر الذي ليس بدعاء لا يقع إلا على وجه واحد ؛ وهو تمجيد الله والثناء عليه ، فلا حاجة إلى تفصيله تفصيلا ينبه إلى ما ليس بمحمود ، والمقسم إلى الفريقين جميع الناس من المسلمين والمشركين ؛ لأن الآية نزلت قبل تحجير الحج على المشركين بآية " براءة " فيتعين أن المراد بمن " ليس له في الآخرة من خلاق " هم المشركون ؛ لأن المسلمين لا يهملون الدعاء لخير الآخرة ما بلغت بهم الغفلة ، فالمقصود من الآية التعريض بذم حالة المشركين ، فإنهم لا يؤمنون بالحياة الآخرة .
وقوله : ( آتنا ) ترك المفعول الثاني لتنزيل الفعل منزلة ما لا يتعدى إلى المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض ببيانه ؛ أي : أعطنا عطاء في الدنيا ، أو يقدر المفعول بأنه الإنعام أو الجائزة أو محذوف لقرينة قوله : ( حسنة ) فيما بعد ؛ أي : آتنا في الدنيا حسنة . والخلاق - بفتح الخاء - : الحظ من الخير ، والنفيس ، مشتق من الخلاقة ؛ وهي الجدارة ، يقال خلق بالشيء - بضم اللام - إذا كان جديرا به ، ولما كان معنى الجدارة مستلزما نفاسة ما به الجدارة ، دل ما اشتق من مرادفها على النفاسة ، سواء قيد بالمجرور كما هنا أم أطلق كما في قوله صلى الله عليه وسلم : أي : في الخير ، وقول إنما يلبس هذه من لا خلاق له البعيث بن حريث :
ولست وإن قربت يوما ببائع خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
ويجوز أن تكون الواو للحال ، والمعنى : من يقول ذلك في حال كونه لا حظ له في الآخرة ، ولعل الحال للتعجيب .
و ( حسنة ) أصلها صفة لفعلة أو خصلة ، فحذف الموصوف ، ونزل الوصف منزلة الاسم مثل تنزيلهم الخير منزلة الاسم مع أن أصله شيء موصوف بالخيرية ، ومثل تنزيل صالحة منزلة الاسم في قول الحطيئة :
كيف الهجاء وما تنفك صالحة من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
ووقعت " حسنة " في سياق الدعاء فيفيد العموم ؛ لأن الدعاء يقصد به العموم كقول الحريري :
يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا
وهو عموم عرفي بحسب ما يصلح له كل سائل من الحسنتين .
وإنما زاد في الدعاء وقنا عذاب النار لأن حصول الحسنة في الآخرة قد يكون بعد عذاب ما ، فأريد التصريح في الدعاء بطلب الوقاية من النار .
وقوله : أولئك لهم نصيب مما كسبوا إشارة إلى الفريق الثاني ، والنصيب : الحظ المعطى لأحد في خير أو شر قليلا كان أو كثيرا ، ووزنه على صيغة فعيل ، ولم أدر أصل اشتقاقه فلعلهم كانوا إذا عينوا الحظ لأحد ينصب له ، ويظهر ويشخص ، وهذا ظاهر كلام في الأساس ، والراغب في مفردات القرآن ، أو هو اسم جاء على هذه الصيغة ولم يقصد منه معنى فاعل ولا معنى مفعول ، وإطلاق النصيب على الشقص المشاع في قولهم : نصيب الشفيع مجاز بالأول . الزمخشري
واعلم أنه وقع في لسان العرب في مادة ( كفل ) : أنه لا يقال هذا نصيب فلان حتى يكون قد أعد لغيره مثله ، فإذا كان مفردا فلا يقال نصيب ، وهذا غريب لم أره لغيره سوى أن الفخر نقل مثله عن عند قوله تعالى : ابن المظفر يكن له كفل منها في سورة النساء . ووقع في كلام [ ص: 249 ] الزجاج وابن عطية في تفسير قوله تعالى : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا قال : تقدير الكلام : جعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا ، وقال الزجاج ابن عطية : قولهم جعل من كذا وكذا نصيبا يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول ا هـ .
وهذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء المسلمين الداعين في تلك المواقف المباركة ، إلا أنه وعد بإجابة شيء مما دعوا به بحسب ما تقتضيه أحوالهم وحكمة الله تعالى ، وبألا يجر إلى فساد عام لا يرضاه الله تعالى ، فلذلك نكر ( نصيب ) ليصدق بالقليل والكثير ، وأما إجابة الجميع إذا حصلت فهي أقوى وأحسن ، و ( كسبوا ) بمعنى طلبوا ؛ لأن كسب بمعنى طلب ما يرغب فيه .
ويجوز أن يراد بالكسب هنا العمل . والنصيب نصيب الثواب فتكون ( من ) ابتدائية .
واسم الإشارة مشير إلى الناس الذين يقولون : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة للتنبيه باسم الإشارة على أن اتصافهم بما بعد اسم الإشارة شيء استحقوه بسبب الإخبار عنهم بما قبل اسم الإشارة ؛ أي : أن الله استجاب لهم لأجل إيمانهم بالآخرة ، فيفهم منه أن دعاء الكافرين في ضلال .
وقوله : والله سريع الحساب تذييل قصد به تحقيق الوعد بحصول الإجابة ، وزيادة تبشير لأهل ذلك الموقف ؛ لأن إجابة الدعاء فيه سريعة الحصول ، فعلم أن الحساب هنا أطلق على مراعاة العمل والجزاء عليه .
والحساب في الأصل العد ، ثم أطلق على عد الأشياء التي يراد الجزاء عليها أو قضاؤها ، فصار الحساب يطلق على الوفاء بالحق ، يقال : حاسبه ؛ أي : كافأه أو دفع إليه حقه ، ومنه سمي يوم القيامة يوم الحساب ، وقال تعالى : إن حسابهم إلا على ربي ، وقال : جزاء من ربك عطاء حسابا أي : وفاقا لأعمالهم ، وهاهنا أيضا أريد به الوفاء بالوعد وإيصال الموعود به ، فاستفادة التبشير بسرعة حصول مطلوبهم بطريق العموم ؛ لأن إجابتهم من جملة حساب الله تعالى عباده على ما وعدهم ، فيدخل في ذلك العموم .
والمعنى : فإذا أتممتم أيها المسلمون مناسك حجكم فلا تنقطعوا عن أن تذكروا الله بتعظيمه وحمده ، وبالالتجاء إليه بالدعاء لتحصيل خير الدنيا وخير الآخرة ، ولا تشتغلوا بالتفاخر ، [ ص: 250 ] فإن ذكر الله خير من ذكركم آباءكم ، كما كنتم تذكرونهم بعد قضاء المناسك قبل الإسلام ، وكما يذكرهم المشركون الآن .
ولا تكونوا كالذين لا يدعون إلا بطلب خير الدنيا ولا يتفكرون في الحياة الآخرة ، لأنهم ينكرون الحياة بعد الموت ، فإنكم إن سألتموه أعطاكم نصيبا مما سألتم في الدنيا وفي الآخرة ، وإن الله يعجل باستجابة دعائكم .