والوحي هنا وحي إلهام يوجد عنده من انشراح الصدر ما يحقق عندها أنه خاطر من الواردات الإلهية . فإن . وقد يكون هذا الوحي برؤيا صادقة رأتها . وأم الإلهام الصادق يعرض للصالحين فيوقع في نفوسهم يقينا يبعثون به إلى عمل ما ألهموا إليه موسى لم يعرف اسمها في كتب اليهود ، وذكر المفسرون لها أسماء لا يوثق بصحتها .
وقوله أن أرضعيه تفسير لـ أوحينا . والأمر بإرضاعه يؤذن بجمل طويت وهي أن الله لما أراد ذلك قدر أن يكون مظهر ما أراده هو الجنين الذي في بطن أم موسى ووضعته أمه ، وخافت عليه اعتداء أنصار فرعون على وليدها ، وتحيرت في أمرها فألهمت أو أريت ما قصه الله هنا وفي مواضع أخرى .
والإرضاع الذي أمرت به يتضمن أن : أخفيه مدة ترضعيه فيها فإذا خفت عليه أن يعرف خبره فألقيه في اليم .
وإنما أمرها الله بإرضاعه لتقوى بنيته بلبان أمه فإنه أسعد بالطفل في أول عمره من لبان غيرها ، وليكون له من الرضاعة الأخيرة قبل إلقائه في اليم قوت يشد بنيته فيما بين قذفه في اليم وبين التقاط آل فرعون إياه وإيصاله إلى بيت فرعون [ ص: 74 ] وابتغاء المراضع ودلالة أخته إياهم على أمه إلى أن أحضرت لإرضاعه فأرجع إليها بعد أن فارقها بعض يوم . وحكت كتب اليهود أن أم موسى خبأته ثلاثة أشهر ثم خافت أن يفشو أمره فوضعته في سفط مقير وقذفته في النهر . وقد بشرها الله بما يزيل همها بأنه راده إليها وزاد على ذلك بما بشرها بما سيكون له من مقام كريم في الدنيا والآخرة بأنه من المرسلين .
والظاهر أن هذا الوحي إليها كان عند ولادته ، وأنها أمرت بأن تلقيه في اليم عند الضرورة دفعا للضر المحقق بالضر المشكوك فيه ، ثم ألقي في يقينها بأنه لا بأس عليه .
واليم : البحر وهو هنا نهر النيل الذي كان يشق مدينة فرعون حيث منازل بني إسرائيل . واليم في كلام العرب مرادف البحر ، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر ، فالنهر العظيم يسمى بحرا قال تعالى وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ، فإن اليم من الأنهار .
وقد كانت هذه الآية مثالا من أمثلة فذكر دقائق الإعجاز القرآني عياض في الشفاء ، والقرطبي في التفسير يزيد أحدهما على الآخر ، عن : أنه سمع جارية أعرابية تنشد : الأصمعي
أستغفر الله لأمري كله قتلت إنسانا بغير حله مثل غزال ناعما في دله
انتصف الليل ولم أصله
[ ص: 75 ] فالخبران هما وأوحينا إلى أم موسى وقوله فإذا خفت عليه ؛ لأنه يشعر أنها ستخاف عليه .
والأمران هما : " أرضعيه " و " ألقيه " .
والنهيان : " ولا تخافي " و " ولا تحزني " .
والبشارتان إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين .
والخوف : توقع أمر مكروه ، والحزن : حالة نفسية تنشأ من حادث مكروه للنفس كفوات أمر محبوب ، أو فقد حبيب ، أو بعده ، أو نحو ذلك .
والمعنى : لا تخافي عليه الهلاك من الإلقاء في اليم ، ولا تحزني على فراقه .
والنهي عن الخوف وعن الحزن نهي عن سببيهما وهما توقع المكروه والتفكر في وحشة الفراق .
وجملة إنا رادوه إليك في موقع العلة للنهيين ؛ لأن ضمان رده إليها يقتضي أنه لا يهلك وأنها لا تشتاق إليه بطول المغيب . وأما قوله وجاعلوه من المرسلين فإدخال للمسرة عليها .