تقدم مثل هذا في سورة النمل إلا مخالفة ألفاظ مثل " أتاها " هنا و " جاءها " هناك . و " إني أنا الله " هنا ، و " إنه أنا الله " هناك بضمير عائد إلى الجلالة هنالك ، وضمير الشأن هنا ، وهما متساويان في الموقع ؛ لأن ضمير الجلالة شأنه عظيم . وقوله هنا " رب العالمين " وقوله هنالك " العزيز الحكيم " . وهذا يقتضي أن الأوصاف الثلاثة قيلت له حينئذ .
والقول في نكتة تقديم صفة الله تعالى قبل إصدار أمره له بإلقاء العصا كالقول الذي تقدم في سورة النمل ؛ لأن وصف رب العالمين يدل على أن جميع الخلائق مسخرة له ليثبت بذلك قلب موسى من هول تلقي الرسالة .
" وأن ألق " هنا و " ألق " هناك ، و " اسلك " هنا و " أدخل " هناك . وتلك المخالفة تفنن في تكرير القصة لتجدد نشاط السامع لها ، وإلا زيادة من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة وهذا واد في سفح الطور . وشاطئه : جانبه وضفته .
ووصف الشاطئ بالأيمن إن حمل الأيمن على أنه ضد الأيسر فهو أيمن باعتبار أنه واقع على يمين المستقبل القبلة على طريقة العرب من جعل القبلة هي الجهة الأصلية لضبط الواقع ، وهم ينعتون الجهات باليمين واليسار ويريدون هذا المعنى ، قال امرؤ القيس :
على قطن بالشيم أيمن صوبه وأيسره على الستار فيذبل
وعلى ذلك جرى اصطلاح المسلمين في تحديد المواقع الجغرافية ومواقع الأرضين ، فيكون الأيمن يعني الغربي للجبل ، أي جهة مغرب الشمس من الطور . [ ص: 113 ] ألا ترى أنهم سموا اليمن يمنا ؛ لأنه على يمين المستقبل باب الكعبة ، وسموا الشام شاما ؛ لأنه على شام المستقبل لبابها ، أي على شماله ، فاعتبروا استقبال الكعبة ، وهذا هو الملائم لقوله الآتي وما كنت بجانب الغربي .وأما جعله بمعنى الأيمن لموسى فلا يستقيم مع قوله تعالى وواعدناكم جانب الطور الأيمن فإنه لم يجر ذكر لموسى هناك .
وإن حمل على أنه تفضيل من اليمن ، وهو البركة فهو كوصفه بـ المقدس في سورة النازعات إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى .
والبقعة بضم الباء ويجوز فتحها هي القطعة من الأرض المتميزة عن غيرها .
والمباركة لما فيها من اختيارها لنزول الوحي على موسى . وقوله من الشجرة يجوز أن يتعلق بفعل " نودي " فتكون الشجرة مصدر هذا النداء وتكون " من " للابتداء ، أي سمع كلاما خارجا من الشجرة . ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا نعتا ثانيا للواد أو حالا فتكون " من " اتصالية ، أي متصلا بالشجرة ، أي عندها ، أي البقعة التي تتصل بالشجرة .
والتعريف في الشجرة تعريف الجنس ، وعدل عن التنكير للإشارة إلى أنها شجرة مقصودة ، وليس التعريف للعهد إذا لم يتقدم ذكر الشجرة ، والذي في التوراة أن تلك الشجرة كانت من شجر العليق ( وهو من شجر العضاه ) وقيل هي عوسجة والعوسج من شجر العضاه أيضا . وزيادة " أقبل " وهي تصريح بمضمون قوله " لا تخف " في سورة النمل ؛ لأنه لما أدبر خوفا من الحية كان النهي عن الخوف يدل على معنى طلب إقباله ، فكان الكلام هنالك إيجازا وكان هنا مساواة تفننا في حكاية القصتين ، وكذلك زيادة إنك من الآمنين هنا ولم يحك في سورة النمل ، وهو تأكيد لمفاد " ولا تخف " . وفيه زيادة تحقيق أمنه بما دل عليه التأكيد بـ " إن " وجعله من جملة الآمنين ، فإنه أشد في تحقيق الأمن من أن يقال : إنك آمن كما تقدم في قوله تعالى أن أكون من الجاهلين في سورة البقرة .
وقوله " واضمم إليك جناحك من الرهب " خفي فيه محصل المعنى المنتزع من تركيبه فكان مجال تردد المفسرين في تبيينه ، واعتكرت محامل كلماته فما [ ص: 114 ] استقام محمل إحداها إلا وناكده محمل أخرى . وهي ألفاظ : جناح ، ورهب ، وحرف " من " . فسلكوا طرائق لا توصل إلى مستقر . وقد استوعبت في كلام القرطبي . قال بعضهم : إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وإن قوله " من الرهب " متعلق بقوله " ولى مدبرا " على أن " من " حرف للتعليل ، أي أدبر لسبب الخوف ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه إذ لا داعي لتقديم وتأخير ما زعموه على ما فيه من طول الفصل بين فعل " ولى " وبين " من الرهب " . والزمخشري
وقيل الجناح : اليد ، ولا يحسن أن يكون مجازا عن اليد ؛ لأنه يفضي إما إلى تكرير مفاد قوله اسلك يدك في جيبك وحرف العطف مانع من احتمال التأكيد . وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في الكشاف بعيد ، أو يؤول بأن وضع اليد على الصدر يذهب الخوف كما عزي إلى الضحاك عن وإلى ابن عباس مجاهد وهو تأويل بعيد . وهذا ميل إلى أن الجناح مجاز مرسل مراد به يد الإنسان . وللجناح حقيقة ومجازات بين مرسل واستعارة وقد ورد في القرآن وغيره في تصاريف معانيه ، وليس وروده في بعض المواضع بمعنى بقاض بحمله على ذلك المعنى حيثما وقع في القرآن . ولذا فالوجه أن قوله " واضمم إليك جناحك " تمثيل بحال الطائر بدلا من أن تطير خوفا . وهذا مأخوذ من أحد وجهين ذكرهما قيل وأصله الزمخشري لأبي علي الفارسي . والرهب معروف أنه الخوف كقوله تعالى يدعوننا رغبا ورهبا .
والمعنى : انكفف عن التخوف من أمر الرسالة . وفي الكلام إيجاز وهو ما دل عليه قوله بعده قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون فقوله " واضمم إليك جناحك من الرهب " في معنى قوله تعالى فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون .
وقرأ الجمهور ( الرهب ) بفتح الراء والهاء ، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بضم الراء وسكون الهاء . وقرأه حفص عن عاصم بفتح الراء وسكون الهاء وهي لغات فصيحة .