ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر خفي اتصال هذا الاستدراك بالكلام الذي قبله ، وكيف يكون استدراكا وتعقيبا للكلام الأول برفع ما يتوهم ثبوته .
[ ص: 131 ] فبيانه أن قوله " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى " مسوق مساق إبطال تعجب المشركين من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حين لم يسبقها رسالة رسول إلى آبائهم الأولين ، كما علمت مما تقدم آنفا ، فذكرهم بأن الله أرسل موسى كذلك بعد فترة عظيمة ، وأن الذين أرسل إليهم موسى أثاروا مثل هذه الشبهة فقالوا ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين فكما كانت رسالة موسى عليه السلام بعد فترة من الرسل كذلك كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم . فالمعنى : فكان المشركون حقيقين بأن ينظروا رسالة محمد برسالة موسى ، ولكن الله أنشأ قرونا أي أمما بين زمن موسى وزمنهم ، فتطاول الزمن فنسي المشركون رسالة موسى فقالوا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة . وحذف بقية الدليل وهو تقدير : فنسوا ، للإيجاز لظهوره من قوله فتطاول عليهم العمر كما قال تعالى عن اليهود حين صاروا يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ، وقال عن النصارى : أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به وقال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم " ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم " ، فضمير الجمع في قوله " عليهم " عائد إلى المشركين لا إلى القرون .
فتبين أن الاستدراك متصل بقوله " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى " وأن ما بين ذلك وبين هذا استطراد . وهذا أحسن في بيان اتصال الاستدراك مما احتفل به صاحب الكشاف . ولله دره في استشعاره ، وشكر الله مبلغ جهده . وهو بهذا مخالف لموقع الاستدراكين الآتيين بعده من قوله ولكنا كنا مرسلين وقوله ولكن رحمة من ربك . والعمر الأمد ، كقوله فقد لبثت فيكم عمرا من قبله .