عطف على جملة وأنزل معهم الكتاب بالحق لبيان حقيقة أخرى من أحوال اختلاف الأمم وهو الاختلاف بين أهل الكتاب بعضهم مع بعض وبين أهل الكتاب الواحد مع تلقيهم دينا واحدا ، والمعنى : وأنزل معهم الكتاب بالحق فاختلف فيه ، كما قال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه .
والمعنى وما اختلف فيه إلا أقوامهم الذين أوتوا كتبهم فاستغنى بجملة القصر عن الجملة الأخرى لتضمن جملة القصر إثباتا ونفيا .
[ ص: 309 ] فالله بعث الرسل لإبطال الضلال الحاصل من جهل البشر بصلاحهم فجاءت الرسل بالهدى ، اتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض عنهم من أعرض فبقي في ضلالة ، فإرسال الرسل لإبطال الاختلاف بين الحق والباطل ، ثم أحدث اتباع الرسل بعدهم اختلافا آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم .
والمقصود من هذا بيان عجيب حال البشر في تسرعهم إلى الضلال ، وهي حقيقة تاريخية من تاريخ الشرائع ، وتحذير المسلمين من الوقوع في مثل ذلك .
والتعريض بأهل الكتاب وهم أشهر أهل الشرائع يومئذ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها ، وهذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب وخاصة اليهود وهي طريقة عربية بليغة قال زهير :
إن البخيل ملوم حين كان ولكن الجواد على علاته هرم
وقال يمدح الخليفة ويستطرد بهجاء الفرزدق جرير :إلى ملك ما أمه من محارب أبوه ولا كانت كليب تصاهره
والاختلاف في الكتاب ذهاب كل فريق في تحريف المراد منه مذهبا يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في الفروع ، فإن الاختلاف في أصوله يعطل المقصود منه .
وجيء بالموصول دون غيره من المعرفات لما في الصلة من الأمر العجيب وهو أن يكون المختلفون في مقصد الكتاب هم الذين أعطوا الكتاب ليزيلوا به الخلاف بين الناس فأصبحوا هم سبب خلاف فيه ، ولا شك أن ذلك يبطل المراد منه .
والمعنى تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالا من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع ، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم .
وقوله من بعد ما جاءتهم البينات متعلق باختلف ، والبينات جمع بينة وهي الحجة والدليل .
[ ص: 310 ] والمراد بالبينات هنا الدلائل التي من شأنها الصد عن الاختلاف في مقاصد الشريعة ، وهي النصوص التي لا تحتمل غير مدلولاتها أعني قواطع الشريعة ، والظواهر المتعاضدة التي التحقت بالقواطع ، والظواهر التي لم يدع داع إلى تأويلها ولا عارضها معارض .
والظواهر المتعارضة التي دل تعارضها على أن محمل كل منها على حالة لا تعارض حالة محمل الآخر وهو المعبر عنه في الأصول بالجمع بين الأدلة وتواريخ التشريع الدالة على نسخ حكم حكما آخر ، أو ما يقوم مقام التاريخ من نحو : هذا ناسخ ، أو كان الحكم كذا فصار كذا ، فهذه بينات مانعة من الاختلاف لو كان غرض الأمم اتباع الحق . ومجيء البينات بلوغ ما يدل عليها وظهور المراد منها .
والبعدية هنا : بعدية اعتبار لم يقصد منها تأخر زمان الاختلاف عن مجيء البينات ، وإن كان هو كذلك في نفس الأمر ، أي أن الخلاف كان في حالة تقررت فيها دلائل الحق في نفوس المختلفين .
وقوله بغيا بينهم مفعول لأجله لاختلفوا ، والبغي : الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب ، ثم شاع في طلب ما للغير بدون حق فصار بمعنى الظلم معنى ثانيا وأطلق هنا على الحسد لأن الحسد ظلم .
والمعنى أن داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر فيحمل الشريعة غير محاملها ليفسد ما حملها عليه الآخر فيفسد كل فريق صواب غيره ، وأما خطؤه فأمره أظهر .
وقوله بينهم متعلق بقوله بغيا للتنصيص على أن البغي بمعنى الحسد ، وأنه ظلم في نفس الأمة وليس ظلما على عدوها .
واعلم أن تعلق كل من المجرور وهو من بعد ما جاءتهم وتعلق المفعول لأجله وهو " بغيا " بقوله اختلف الذي هو محصور بالاستثناء المفرغ ، ويستلزم أن يكون كلاهما محصورا في فاعل الفعل الذي تعلقا به ، فلا يتأتى فيه الخلاف الذي ذكره الرضي بين النحاة في جواز استثناء شيئين بعد أداة استثناء واحدة ، لأن التحقيق أن ما هنا ليس استثناء أشياء بل استثناء شيء واحد وهم الذين أوتوه ، لكنه مقيد بقيدين هما من بعد ما جاءتهم البينات و ( بغيا ) [ ص: 311 ] إذ المقصود أن الخلاف لم يكن بين أهل الدين ومعانديه ، ولا كان بين أهل الدين قبل ظهور الدلائل الصارفة عن الخلاف ، ولا كان ذلك الخلاف عن مقصد حسن بل كان بين أهل الدين الواحد ، مع قيام الدلائل وبدافع البغي والحسد .
والآية تقتضي أي في أصول الإسلام ، فالخلاف الحاصل بين علماء الإسلام ليس اختلافا في أصول الشريعة ، فإنها إجماعية ، وقد أجمعوا على أنهم يريدون تحقيقها ، ولذلك اتفقت أصولهم في البحث عن مراد الله تعالى وعن سنة رسوله للاستدلال عن مقصد الشارع وتصرفاته ، واتفقوا في أكثر الفروع ، وإنما اختلفوا في تعيين كيفية الوصول إلى مقصد الشارع ، وقد استبرءوا للدين فأعلنوا جميعا : أن لله تعالى حكما في كل مسألة ، وأنه حكم واحد ، وأنه كلف المجتهدين بإصابته وأن المصيب واحد ، وأن مخطئه أقل ثوابا من مصيبه ، وأن التقصير في طلبه إثم . تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف في الدين
فالاختلاف الحاصل بين علمائنا اختلاف جليل المقدار موسع للأنظار . أما لو جاء أتباعهم فانتصروا لآرائهم مع تحقق ضعف المدرك أو خطئه لقصد ترويج المذهب وإسقاط رأي الغير فذلك يشبه الاختلاف الذي شنعه الله تعالى وحذرنا منه فكونوا من مثله على حذر ولا تكونوا كمثل قول : المعري
فمجادل وصل الجدال وقد درى أن الحقيقة فيه ليس كما زعم
علم الفتى النظار أن بصائرا عميت فكم يخفى اليقين وكما يعم
[ ص: 312 ] والمراد من الذين آمنوا المسلمون لا محالة ، والضمير في اختلفوا عائد للمختلفين كلهم ، سواء الذين اختلفوا في الحق قبل مجيء الرسل والذين اختلفوا في الشرائع بعد مجيء الرسل والبينات ؛ ولذلك بينه من الحق وهو الحق الذي تقدم ذكره في قوله وأنزل معهم الكتاب بالحق فإن اختلاف الفريقين راجع إلى الاختلاف في تعيين الحق إما عن جهل أو عن حسد وبغي .
والإذن : الخطاب بإباحة فعل وأصله مشتق من فعل أذن إذا أصغى أذنه إلى كلام من يكلمه ، ثم أطلق على الخطاب بإباحة فعل على طريقة المجاز بعلاقة اللزوم لأن الإصغاء إلى كلام المتكلم يستلزم الإقبال عليه وإجابة مطلبه ، وشاع ذلك حتى صار الإذن أشيع في معنى الخطاب بإباحة الفعل ، وبذلك صار لفظ الإذن قابلا لأن يستعمل مجازا في معان من مشابهات الخطاب بالإباحة ، فأطلق في هذه الآية على التمكين من الاهتداء وتيسيره بما في الشرائع من بيان الهدى والإرشاد إلى وسائل الاهتداء على وجه الاستعارة ، لأن من ييسر لك شيئا فكأنه أباح لك تناوله .
وفي هذا إيماء إلى أن الله بعث بالإسلام لإرجاع الناس إلى الحق وإلى التوحيد الذي كانوا عليه ، أو لإرجاعهم إلى الحق الذي جاءت الرسل لتحصيله ، فاختلف أتباعهم فيه بدلا من أن يحققوا بأفهامهم مقاصد ما جاءت به رسلهم ، فحصل بما في الإسلام من بيان القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وضوح الحق والإرشاد إلى كيفية أخذه ، فحصل بمجيء الإسلام إتمام مراد مما أنزل من الشرائع السالفة .
وقوله والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم تذييل لبيان أن فضل الله يعطيه من يشاء ، وهذا إجمال ، وتفصيله أن حكمة الله اقتضت أن يتأخر تمام الهدى إلى وقت مجيء شريعة الإسلام لما تهيأ البشر بمجيء الشرائع السابقة لقبول هذه الشريعة ، كانت الشرائع السابقة تمهيدا وتهيئة لقبول دين الإسلام ، ولذلك صدرت هذه الآية بقوله كان الناس أمة واحدة ، فكما كان البشر في أول أمره أمة واحدة على هدى بسيط ثم عرضت له الضلالات عند تحرك الأفكار البشرية ، رجع البشر إلى دين واحد في حالة ارتقاء الأفكار ، وهذا اتحاد عجيب ، لأنه جاء بعد تشتت الآراء والمذاهب ، ولذا قال تعالى إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، [ ص: 313 ] وفي الحديث واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له نصف النهار ، فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل ، فقال لهم لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا ، واستأجر آخرين بعدهم فقال لهم : أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا : تلك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه ، فقال لهم أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا ، واستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور ، فقالت اليهود والنصارى ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء ، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء . مثل المسلمين