يجوز أن تكون مقالته هذه سابقة على إلقائه في النار ، وأن تكون بعد أن أنجاه الله من النار . والأظهر من ترتيب الكلام أنها كانت بعد أن أنجاه الله من النار ، أراد به إعلان مكابرتهم الحق وإصرارهم على عبادة الأوثان بعد وضوح الحجة عليهم بمعجزة سلامته من حرق النار ، وتقدم ذكر الأوثان قريبا .
ومحط القصر بـ إنما هو المفعول لأجله ، أما قصر المعبودات من دون الله على كونها أوثانا فقد سبق في قوله : إنما تعبدون من دون الله أوثانا أي ما اتخذتم أوثانا إلا لأجل مودة بعضكم بعضا . ووجه الحصر أنه لم تبق لهم شبهة في عبادة الأوثان بعد مشاهدة دلالة صدق الرسول الذي جاء بإبطالها ، فتمحض أن يكون سبب بقائهم على عبادة الأوثان هو مودة بعضهم بعضا الداعية لإباية المخالفة . والمودة : المحبة والإلف ، ويتعين أن يكون ضمير " بينكم " شاملا للأوثان .
والمودة : المحبة ، فهؤلاء القوم يحب بعضهم بعضا ، فلا يخالفه وإن لاح له أنه على ضلال ، ويحبون الأوثان فلا يتركون عبادتها وإن ظهرت لبعضهم دلالة بطلان إلهيتها ، قال تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله .
[ ص: 236 ] قال الفخر : أي مودة بين الأوثان وعبدتها ، فإن من غلبت عليه اللذات الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية ، كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين مجمع من الأكابر لا يلتفت إلى اللذة العقلية من الحياء وحسن السيرة ، بل يحصل ما فيه لذة جسمه . فهم كانوا قليلي العقول ، فغلبت عليهم اللذات الجسمية فلم يتسع عقلهم لمعبود غير جسماني ، ورأوا تلك الأصنام مزينة بألوان وجواهر فأحبوها .
وفعل اتخذتم مراد به الاستمرار والبقاء على اتخاذها بعد وضوح حجة بطلان استحقاقها العبادة .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف " مودة " منصوبا منونا بدون إضافة ، و " بينكم " منصوبا على الظرفية . وقرأ حمزة وحفص عن عاصم ، وروح عن يعقوب " مودة " منصوبا غير منون ، بل مضافا إلى " بينكم " ، و " بينكم " مجرور ، أو هو من إضافة المظروف إلى الظرف . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي ورويس عن يعقوب مرفوعا مضافا على أن تكون " ما " في " إنما " موصولة ، وحقها أن تكتب مفصولة ، و " مودة " خبر " إن " ، تكون كتابة " إنما " متصلة من قبيل الرسم غير القياسي ، فيكون الإخبار عنها بأنها مودة إخبارا مجازيا عقليا باعتبار أن الاتخاذ سبب عن المودة . ولما في المجاز من المبالغة كان فيه تأكيد للخبر بعد تأكيده بـ " إن " ، فيقوم التأكيدان مقام الحصر ؛ إذ ليس الحصر إلا تأكيدا على تأكيد كما قال السكاكي ، أي لأنه بمنزلة إعادة الخبر حيث يثبت ثم يؤكد بنفي ما عداه .
والخبر مستعمل في غير إفادة الحكم بل في التنبيه على الخطأ بقرينة قوله عقبه : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا . ونظيره جملة صلة الموصول في قول عبدة بن الطبيب :
إن الذين ترونهم إخوانكم يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
[ ص: 237 ] ولما كان في قوله : " مودة بينكم " شائبة ثبوت منفعة لهم في عبادة الأوثان ؛ إذ يكتسبون بذلك مودة بينهم تلذ لنفوسهم - قرنه بقوله : في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض إلخ ؛ تنبيها لسوء عاقبة هذه المودة وإزالة للغرور والغفلة ، ليعلموا أن اللذات العاجلة لا عبرة بها إن كانت تعقب ندامة آجلة .ومعنى يكفر بعضكم ببعض أن المخاطبين يكفرون بالأصنام التي كانوا يعبدونها ؛ إذ يجحدون يوم القيامة أنهم كانوا يعبدونها .
ومعنى ويلعن بعضكم بعضا أن المخاطبين يلعن كل واحد منهم الآخرين ، إما لأن الملعونين غروا اللاعنين فسولوا لهم اتخاذ الأصنام ، وإما لأنهم وافقوهم على ذلك .
وهذه مخاز تلحق بعضهم من بعض ، ثم ذكر ما يعمهم من عذاب الخزي بقوله : ومأواكم النار .
ثم ذكر ما يعمهم جميعا من انعدام النصير فقال : وما لكم من ناصرين فنفى عنهم جنس الناصر . وهو من يزيل عنهم ذلك الخزي . وجيء في نفي الناصر بصيغة الجمع هنا خلافا لقوله آنفا : وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ؛ لأنهم لما تألبوا على إبراهيم وتجمعوا لنصرة أصنامهم كان جزاؤهم حرمانهم من النصراء مطابقة بين الجزاء والحالة التي جوزوا عليها . على أن المفرد والجمع في حيز النفي سواء في إفادة نفي كل فرد من الجنس .