ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به
هذا عود إلى مجادلة المشركين في إثبات أن - صلى الله عليه وسلم - . القرآن منزل من الله على رسوله
فالمعنى : ومثل ذلك التنزيل البديع أنزلنا إليك الكتاب ، فهو بديع في فصاحته ، وشرف معانيه ، وعذوبة تراكيبه ، وارتفاعه على كل كلام من كلام البلغاء ، وفي تنجيمه ، وغير ذلك . وقد تقدم بيان مثل هذه الإشارة عند قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا في سورة البقرة .
وقد تفرع على بداعة تنزيله الإخبار بأن الذين علمهم الله الكتاب يؤمنون به أي يصدقون أنه من عند الله ؛ لأنهم أدرى بأساليب الكتب المنزلة على الرسل والأنبياء وأعلم بسمات الرسل وشمائلهم .
[ ص: 9 ] وإنما قال فالذين آتيناهم الكتاب دون أن يقول : فأهل الكتاب ؛ لأن في آتيناهم الكتاب تذكيرا لهم بأنهم أمناء عليه كما قال تعالى : بما استحفظوا من كتاب الله .
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أنه سيقع في المستقبل ، أو للدلالة على تجدد إيمان هذا الفريق به ، أي إيمان من آمن منهم مستمر ، يزداد عدد المؤمنين يوما فيوما .
والإشارة بـ هؤلاء إلى أهل مكة بتنزيلهم منزلة الحاضرين عند نزول الآية ؛ لأنهم حاضرون في الذهن بكثرة ممارسة أحوالهم وجدالهم . وهكذا اصطلاح القرآن حيث يذكر هؤلاء بدون سبق ما يصلح للإشارة إليه ، وهذا قد ألهمني الله إليه ، وتقدم عند قوله تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء في سورة الأنعام . والمعنى : ومن مشركي أهل مكة من يؤمن به ، أي بأن القرآن منزل من الله ، وهؤلاء هم الذين أسلموا والذين يسلمون من بعد ، ومنهم من يؤمن به في باطنه ولا يظهر ذلك ؛ عنادا وكبرا مثل الوليد بن المغيرة .
وقد أشار قوله تعالى : وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون إلى أن من هؤلاء الذين يؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب وأهل مكة من يكتم إيمانه جحودا منهم لأجل تصلبهم في الكفر .
فالتعريف في الكافرون للدلالة على معنى الكمال في الوصف المعرف ، أي إلا المتوغلون في الكفر الراسخون فيه ، ليظهر وجه الاختلاف بين " ما يجحد " وبين الكافرون ، إذ لولا الدلالة على معنى الكمال لصار معنى الكلام : وما يجحد إلا الجاحدون .
وعبر عن الكتاب بالآيات ؛ لأنه آيات دالة على أنه من عند الله بسبب إعجازه وتحديه وعجز المعاندين عن الإتيان بسورة مثله .
وهذا يتوجه ابتداء إلى المشركين ؛ لأن جحودهم واقع ، وفيه تهيئة لتوجهه إلى من عسى أن يجحد به من أهل الكتاب من دون أن يواجههم بأنهم كافرون ؛ لأنه لم يعرف منهم ذلك الآن ، فإن فعلوه فقد أوجبوا ذلك على أنفسهم .