عطف على جملة وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه استقصاء في الرد على شبهاتهم ، وإبطالا لتعلات إعراضهم الناشئ عن المكابرة ، وهم يخيلون أنهم إنما أعرضوا لعدم اقتناعهم بآية صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ومناسبة وقوعه هنا أنه لما ذكر كفرهم بالله وكان النبيء - عليه الصلاة والسلام - ينذرهم على ذلك بالعذاب وكانوا يستعجلونه به - ذكر توركهم عليه عقب ذكر الكفر . واستعجال العذاب : طلب تعجيله ، وهو العذاب الذي توعدوا به ، وقصدهم من ذلك الاستخفاف بالوعيد . وتقدم الكلام على تركيب يستعجلونك بالعذاب في قوله تعالى : ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير في سورة يونس ، وقوله : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة في سورة الرعد . والتعريف في العذاب تعريف الجنس .
وحكي استعجالهم العذاب بصيغة المضارع لاستحضار حال استعجالهم لإفادة التعجيب منها كما في قوله تعالى : يجادلنا في قوم لوط .
وقد أبطل ما قصدوه بقوله : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وذلك أن حلول العذاب ليس بيد الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولا جاريا على طلبهم واستبطائهم ، فإن الله هو المقدر لوقت حلوله بهم في أجل قدره بعلمه .
[ ص: 19 ] والمسمى أريد به المعين المحدود ، أي في علم الله تعالى ، وقد تقدم عند قوله تعالى : ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى في سورة الحج .
والمعنى : لولا الأجل المعين لحلول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلا ؛ لأن كفرهم يستحق تعجيل عقابهم ، ولكن أراد الله تأخيره لحكم علمها ، منها إمهالهم ليؤمن منهم من آمن بعد الوعيد ، وليعلموا أن الله لا يستفزه استعجالهم العذاب ؛ لأنه حكيم لا يخالف ما قدره بحكمته ، حليم يمهل عباده ، فالمعنى : لولا أجل مسمى لجاءهم العذاب في وقت طلبهم تعجيله ، ثم أنذرهم بأنه آتيهم بغتة ، وأن إتيانه محقق ؛ لما دل عليه لام القسم ونون التوكيد ، وذلك عند حلول الأجل المقدر له . وقد حل بهم عذاب يوم بدر بغتة كما قال تعالى : ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، فاستأصل صناديدهم يومئذ وسقط في أيديهم .
وإذ قد كان الله أعد لهم عذابا أعظم من عذاب يوم بدر وهو عذاب جهنم الذي يعم جميعهم - أعقب إنذارهم بعذاب يوم بدر بإنذارهم بالعذاب الأعظم . وأعيد لأجله ذكر استعجالهم بالعذاب معترضا بين المتعاطفين إيماء إلى أن ذلك جواب استعجالهم ، فإنهم استعجلوا العذاب فأنذروا بعذابين ، أحدهما أعجل من الآخر . وفي إعادة يستعجلونك بالعذاب تهديد وإنذار بأخذهم ، فجملة وإن جهنم معطوفة على جملة وليأتينهم بغتة فهما عذابان كما هو مقتضى ظاهر العطف .
والإحاطة كناية عن عدم إفلاتهم منها .
والمراد بالكافرين : المستعجلون . واستحضروا بوصف الكافرين للدلالة على أنه موجب إحاطة العذاب بهم ، واستعمل اسم الفاعل في الإحاطة المستقبلة مع أن شأن اسم الفاعل أن يفيد الاتصاف في زمن الحال ، تنزيلا للمستقبل منزلة زمان الحال تنبيها على تحقيق وقوعه لصدوره عمن لا خلاف في إخباره .
ويتعلق يوم يغشاهم العذاب بـ محيطة ، أي تحيط بهم يوم يغشاهم العذاب ، وفي قوله : يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم تصوير للإحاطة . والغشيان : التغطية والحجب .
[ ص: 20 ] وقوله : من فوقهم بيان للغشيان لتصويره تفظيعا لحاله كقوله : ولا طائر يطير بجناحيه وتأكيدا لمعنى الغشيان لرفع احتمال المجاز ، فهو في موضع الحال من العذاب وهي حال مؤكدة .
وقوله : ومن تحت أرجلهم احتراس عما قد يوهمه الغشيان من الفوقية خاصة ، أي تصيبهم نار من تحتهم تتوهج إليهم وهم فوقها ، ولما كان معطوفا على الحال بالواو ، وكان غير صالح لأن يكون قيدا لـ يغشاهم ؛ لأن الغشيان هو التغطية فتقتضي العلو - تعين تقدير فعل يتعلق به من تحت أرجلهم ، وهو أن يقدر عامل محذوف . وقد عد هذا العمل من خصائص الواو في العطف ، أن تعطف عاملا محذوفا دل عليه معموله ، كقول عبد الله بن الزبعرى :
يا ليت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا
يريد : وممسكا رمحا ؛ لأن الرمح لا يتقلد - يصلح أن يكون مفعولا معه ، وأبو عبيدة والأصمعي والجرمي واليزيدي ومن وافقهم يجعلون هذا من قبيل تضمين الفعل معنى فعل صالح للتعلق بالمذكور ، فيقدر في هذه الآية تضمين فعل يغشاهم معنى يصيبهم أو يأخذهم ، والمقصود من هذا الكناية عن أن العذاب محيط بهم ، فلذلك لم يذكر الجانبان الأيمن والأيسر ؛ لأن الغرض من الكناية قد حصل .والمقام مقام إيجاز ؛ لأنه مقام غضب وتهديد بخلاف قوله تعالى : ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ؛ لأنه حكاية لإلحاح الشيطان في الوسوسة .
وقرأ نافع وعاصم وحمزة ويقول بالياء التحتية ، والضمير عائد إلى معلوم من المقام . فالتقدير : ويقول الله . وعدل عن ضمير التكلم على خلاف مقتضى الظاهر على طريقة الالتفات على رأي كثير من أيمة البلاغة ، أو يقدر : ويقول الملك الموكل بجهنم ، أو التقدير : ويقول العذاب ، بأن يجعل الله للنار أصواتا كأنها قول القائل : ذوقوا . وقرأ والكسائي ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالنون ، وهي نون العظمة .
[ ص: 21 ] ومعنى ما كنتم تعملون : جزاؤه ؛ لأن الجزاء لما كان بقدر المجزي أطلق عليه اسمه مجازا مرسلا أو مجازا بالحذف .