استئناف ناشئ عن قوله " أم يقولون افتراه " الآية ، تفرغ المقام له بعد أن أنحى بالتقريع والوعيد للكافرين على كفرهم بلقاء الله ، بما أفادت اسمية جملة بل هم بلقاء ربهم كافرون من أنهم ثابتون على الكفر بلقاء الله دائمون عليه ، وهو مما أنذرتهم به آيات القرآن ، فالتكذيب بلقاء الله تكذيب بما جاء به القرآن فهم لا يؤمنون ، وإنما يؤمن بآيات الله الذين ذكرت أوصافهم هنا .
والمراد بالآيات هنا آيات القرآن بقرينة قوله " الذين إذا ذكروا بها " بتشديد الكاف ، أي أعيد ذكرها عليهم وتكررت تلاوتها على مسامعهم .
ومفاد إنما قصر إضافي ، أي يؤمن بآيات الله الذين إذا ذكروا بها تذكيرا بما سبق لهم سماعه لم يتريثوا عن إظهار الخضوع لله دون الذين قالوا ( أإذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد ) ، وهذا تأييس للنبي - صلى الله عليه وسلم - من إيمانهم ، وتعريض بهم بأنهم لا ينفعون المسلمين بإيمانهم ولا يغيظونهم بالتصلب في الكفر .
وأوثرت صيغة المضارع في إنما يؤمن لما تشعر به من أنهم يتجددون في الإيمان ويزدادون يقينا وقتا فوقتا ، كما تقدم في قوله تعالى : الله يستهزئ بهم في سورة البقرة ، وإلا فإن المؤمنين قد حصل إيمانهم فيما مضى ففعل المضي آثر بحكاية حالهم في الكلام المتداول لولا هذه الخصوصية ، ولهذا عرفوا بالموصولية والصلة الدال معناها على أنهم راسخون في الإيمان ، فعبر عن إبلاغهم آيات القرآن وتلاوتها على أسماعهم بالتذكير المقتضي أن ما تتضمنه الآيات حقائق مقررة عندهم لا يفادون بها فائدة لم تكن حاصلة في نفوسهم ولكنها تكسبهم تذكيرا فإن الذكرى تنفع المؤمنين . وهذه الصفة التي تضمنتها الصلة هي حالهم التي عرفوا بها لقوة إيمانهم وتميزوا بها عن الذين كفروا ، وليست تقتضي أن من المؤمنين ليسوا ممن يؤمنون ، ولكن هذه [ ص: 228 ] من لم يسجدوا عند سماع الآيات ولم يسبحوا بحمد ربهم - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عرفوا بها ، وهذا كما تقول للسائل عن علماء البلد : هم الذين يلبسون عمائم صفتها كذا . جاء في ترجمة حالة أكمل الإيمان وهي حالة المؤمنين مع النبي أنه ما أفتى حتى أجازه سبعون محنكا ، أي عالما يجعل شقة من عمامته تحت حنكه وهي لبسة أهل الفقه والحديث . قال مالك بن أنس مالك - رحمه الله - : قلت لأمي : أذهب فأكتب العلم ، فقالت : تعال فالبس ثياب العلم . فألبستني ثيابا مشمرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها .
والخرور : الهوي من علو إلى سفل .
والسجود : وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع .
وانتصب سجدا على الحال المبينة للقصد من خروا ، أي سجدا لله وشكرا له على ما حباهم به من العلم والإيمان كما دل عليه قرنه بقوله : وسبحوا بحمد ربهم . والباء فيه للملابسة وتقدم في سورة الإسراء إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا .
ودلت الجملة الشرطية على اتصال تعلق حصول الجواب بحصول الشرط وتلازمهما .
وجيء في نفي التكبر عنهم بالمسند الفعلي لإفادة اختصاصهم بذلك ، أي دون المشركين الذين كان الكبر خلقهم فهم لا يرضون لأنفسهم بالانقياد للنبيء منهم وقالوا : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا .
وقوله تعالى " وهم لا يستكبرون " موضع سجدة من سجدات تلاوة القرآن رجاء أن يكون التالي من أولئك الذين أثنى الله عليهم بأنهم إذا ذكروا بآيات الله سجدوا ، فالقارئ يقتدي بهم .
وجملة تتجافى جنوبهم حال من الموصول ، أي الذين إذا ذكروا بها خروا ومن حالهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، أو استئناف .
وجيء فيها بالمضارع لإفادة تكرر ذلك وتجدده منهم في أجزاء كثيرة من الأوقات المعدة للاضطجاع وهي الأوقات التي الشأن فيها النوم .
[ ص: 229 ] والتجافي : التباعد والمتاركة ، والمعنى : أن تجافي جنوبهم عن المضاجع يتكرر في الليلة الواحدة ، أي يكثرون السهر بقيام الليل والدعاء لله ; وقد فسره النبيء - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الرجل في جوف الليل ، كما سيأتي في حديث معاذ عند الترمذي .
والمضاجع : الفرش جمع مضجع ، وهو مكان الضجع ، أي الاستلقاء للراحة والنوم . و ( أل ) فيه عوض عن المضاف إليه ، أي عن مضاجعهم كقوله تعالى : فإن الجنة هي المأوى .
وهذا تعريض بالمشركين إذ يمضون ليلهم بالنوم لا يصرفه عنهم تفكر بل يسقطون كما تسقط الأنعام . وقد صرح بهذا المعنى
عبد الله بن رواحة
بقوله يصف النبيء - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد أصحاب هذا الشأن :
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وجملة يدعون ربهم يجوز أن تكون حالا من ضمير جنوبهم والأحسن أن تجعل بدل اشتمال من جملة تتجافى جنوبهم .وانتصب خوفا وطمعا على الحال بتأويل خائفين وطامعين ، أي من غضبه وطمعا في رضاه وثوابه ، أي هاتان صفتان لهم .
ويجوز أن ينتصبا على المفعول لأجله ، أي لأجل الخوف من ربهم والطمع في رحمته .
ولما ذكر ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لذات أخرى وهو المال إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال : إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ومما رزقناهم ينفقون أي يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم .
ثم عظم الله جزاءهم إذ قال : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين أي لا تبلغ نفس من أهل الدنيا معرفة ما أعد الله لهم قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى : فدل على أن المراد بـ " نفس " في هذه الآية أصحاب النفوس البشرية [ ص: 230 ] فإن مدركات العقول منتهية إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة ، وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال ومحامدها ومحاسن النغمات ، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسموعات مثل الأنهار من عسل أو خمر أو لبن ، ومثل القصور والقباب من اللؤلؤ ، ومثل الأشجار من زبرجد ، والأزهار من ياقوت ، وتراب من مسك وعنبر ، فكل ذلك قليل في جانب ما أعد لهم في الجنة من هذه الموصوفات ولا تبلغه صفات الواصفين لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر فلذلك قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهذا كقولهم في تعظيم شيء : هذا لا يعلمه إلا الله . ولا خطر على قلب بشر
قال الشاعر :
فلم يدر إلا الله ما هيجت لنا عشية آناء الديار وشامها
وقرة الأعين : كناية عن المسرة كما تقدم في قوله تعالى " وقري عينا " في سورة مريم .
وقرأ الجمهور ( أخفي ) بفتح الياء بصيغة الماضي المبني للمجهول .
وقرأ حمزة ويعقوب ( أخفي ) بصيغة المضارع المفتتح بهمزة المتكلم والياء ساكنة ، و جزاء منصوب على الحال من ما أخفي لهم وقد فسر النبيء - صلى الله عليه وسلم - أنه جزاء على هذه الأعمال الصالحات في حديث أغر رواه
الترمذي عن قال : معاذ بن جبل ثم تلا وصلاة الرجل في جوف الليل تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ " . . . يعملون " . . الحديث . قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار . قال : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه : تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار