ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه استئناف ابتدائي ابتداء المقدمة للغرض بعد التمهيد له بما قبله ، والمقدمة أخص [ ص: 254 ] من التمهيد لأنها تشتمل على ما يوضح المقصد بخلاف التمهيد ; فهذا مقدمة لما أمر النبيء - صلى الله عليه وسلم - باتباعه مما يوحى إليه وهو تشريع الاعتبار بحقائق الأشياء ومعانيها ، وأن مواهي الأمور لا تتغير بما يلصق بها من الأقوال المنافية للحقائق ، وأن تلك الملصقات بالحقائق هي التي تحجب العقول عن التفهم في الحقائق الحق ، وهي التي ترين على القلوب بتلبيس الأشياء .
وذكر هاهنا نوعان من الحقائق : أحدهما من حقائق المعتقدات لأجل إقامة الشريعة على العقائد الصحيحة ، ونبذ الحقائق المصنوعة المخالفة للواقع لأن إصلاح التفكير هو مفتاح إصلاح العمل ، وهذا ما جعل تأصيله إبطال أن يكون الله جعل في خلق بعض الناس نظاما لم يجعله في خلق غيرهم .
وثاني النوعين من حقائق الأعمال : لتقوم الشريعة على اعتبار مواهي الأعمال بما هي ثابتة عليه في نفس الأمر إلا بالتوهم والادعاء . وهذا يرجع إلى قاعدة أن حقائق الأشياء ثابتة وهو ما أشير إليه بقوله تعالى : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق ) ، أي لا يقول الباطل مثل بعض أقوالكم من ذلك القبيل .
والمقصود التنبيه إلى بطلان أمور كان أهل الجاهلية قد زعموها وادعوها . وابتدئ من ذلك بما دليل بطلانه الحس والاختبار ليعلم من ذلك أن الذين اختلقوا مزاعم يشهد الحس بكذبها يهون عليهم اختلاق مزاعم فيها شبه وتلبيس للباطل في صورة الحق فيتلقى ذلك بالإذعان والامتثال .
والإشارة بقوله ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه إلى أكذوبة من تكاذيب الجاهلية كانوا يزعمون أن جميل بن معمر ( ويقال : ابن أسد ) بن حبيب الجمحي الفهري ( وكان رجلا داهية قوي الحفظ ) أن له قلبين يعملان ويتعاونان وكانوا يدعونه ذا القلبين يريدون العقلين لأنهم كانوا يحسبون أن الإدراك بالقلب وأن القلب محل العقل . وقد غره ذلك أو تغاور به فكان لشدة كفره يقول إن في جوفي قلبين أعمل بكل واحد منهما عملا أفضل من عمل محمد . وسموا بذي [ ص: 255 ] القلبين أيضا عبد الله بن خطل التيمي ، وكان يسمى في الجاهلية عبد العزى وأسلم فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ، ثم كفر وقتل صبرا يوم فتح مكة وهو الذي تعلق بأستار الكعبة فلم يعف عنه ، فنفت الآية زعمهم نفيا عاما ، أي ما جعل الله لأي رجل من الناس قلبين لا لجميل بن معمر ولا لابن خطل ، فوقوع رجل وهو نكرة في سياق النفي يقتضي العموم ، ووقوع فعل جعل في سياق النفي يقتضي العموم لأن الفعل في سياق النفي مثل النكرة في سياق النفي . ودخول من على قلبين للتنصيص على عموم قلبين في جوف رجل فدلت هذه العمومات الثلاثة على انتفاء كل فرد من أفراد الجعل لكل فرد مما يطلق عليه أنه قلبان ، عن كل رجل من الناس ، فدخل في العموم جميل بن معمر وغيره بحيث لا يدعى ذلك لأحد أيا كان .
ولفظ رجل لا مفهوم له لأنه أريد به الإنسان بناء على ما تعارفوه في مخاطباتهم من نوط الأحكام والأوصاف الإنسانية بالرجال جريا على الغالب في الكلام ما عدا الأوصاف الخاصة بالنساء ، يعلم أيضا أنه لا يدعى لامرأة أن لها قلبين بحكم فحوى الخطاب أو لحن الخطاب .
والجعل المنفي هنا هو الجعل الجبلي ، أي وقد جعل إبطال هذا الزعم تمهيدا لإبطال ما تواضعوا عليه من جعل أحد ابنا لمن ليس هو بابنه ، ومن جعل امرأة أما لمن هي ليست أمه بطريقة قياس التمثيل ، أي أن هؤلاء الذين يختلقون ما ليس في الخلقة لا يتورعون عن اختلاق ما هو من ذلك القبيل من الأبوة والأمومة ، وتفريعهم كل اختلاقهم جميع آثار الاختلاق ، فإن البنوة والأمومة صفتان من أحوال الخلقة وليستا مما يتواضع الناس عليه بالتعاقد مثل الولاء والحلف . ما خلق الله رجلا بقلبين في جوفه
فأما قوله تعالى : وأزواجه أمهاتهم فهو على معنى التشبيه في أحكام البرور وحرمة التزويج ; ألا ترى ما جاء في الحديث عائشة من أبي بكر قال له أبو بكر : يا رسول الله ، إنما أنا أخوك ، فقال رسول الله : أنت أخي وهي لي حلال ، أي أن الأخوة لا تتجاوز حالة المشابهة في النصيحة وحسن [ ص: 256 ] المعاشرة ولا تترتب عليها آثار الأخوة الجبلية لأن تلك آثار مرجعها إلى الخلقة فذلك معنى قوله : أن رسول الله لما خطب . أنت أخي وهي لي حلال
والجوف : باطن الإنسان صدره وبطنه وهو مقر الأعضاء الرئيسية عدا الدماغ .
وفائدة ذكر هذا الظرف زيادة تصوير المدلول عليه بالقلب وتجليه للسامع فإذا سمع ذلك كان أسرع إلى الاقتناع بإنكار احتواء الجوف على قلبين ، وذلك مثل قوله ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ونحوه من القيود المعلومة ; وإنما يكون التصريح بها تذكيرا بما هو معلوم وتجديدا لتصوره ، ومنه قوله تعالى : " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه " وقد تقدم في سورة الأنعام .