استئناف بياني ، لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عن التسرع بالحلف إفادة صريحة أو التزامية ، كانت نفوس السامعين بحيث يهجس بها التفكر والتطلع إلى حكم اليمين التي تجري على الألسن . ومناسبته لما قبله ظاهرة لا سيما إن جعلت قوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم نهيا عن الحلف .
والمؤاخذة مفاعلة من الأخذ بمعنى العد والمحاسبة ، يقال أخذه بكذا أي عده عليه ليعاتبه ، أو يعاقبه ، قال كعب بن زهير :
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب وإن كثرت في الأقاويل
فالمفاعلة هنا للمبالغة في الأخذ; إذ ليس فيه حصول الفعل من الجانبين [ ص: 381 ] والمؤاخذة باليمين ، هي الإلزام بالوفاء بها ، وعدم الحنث; ويترتب على ذلك أن يأثم إذا وقع الحنث ، إلا ما أذن الله في كفارته ، كما في آية سورة العقود .مصدر لغا ، إذا قال كلاما خطأ ، يقال : لغا يلغو لغوا كدعا ، ولغا يلغى لغيا كسعى . ولغة القرآن بالواو . وفي اللسان : أنه لا نظير له إلا قولهم أسوته أسوا وأسى أصلحته وفي الكواشي : ولغا يلغو لغوا قال باطلا ، ويطلق اللغو أيضا على الكلام الساقط ، الذي لا يعتد به ، وهو الخطأ ، وهو إطلاق شائع . وقد اقتصر عليه واللغو في الأساس ، ولم يجعله مجازا ; واقتصر على التفسير به في الكشاف وتبعه متابعوه . الزمخشري
و ( في ) للظرفية المجازية ، المراد بها الملابسة ، وهي ظرف مستقر ، صفة اللغو أو حال منه ، وكذلك قدره الكواشي فيكون المعنى ، على جعل اللغو بمعنى المصدر ، وهو الأظهر : لا يؤاخذكم الله بأن تلغوا لغوا ملابسا للأيمان ، أي لا يؤاخذكم بالأيمان الصادرة صدور اللغو ، أي غير المقصود من القول .
فإذا جعلت اللغو اسما ، بمعنى الكلام الساقط الخاطئ ، لم تصح ظرفيته في الأيمان ، لأنه من الأيمان ، فالظرفية متعلقة بيؤاخذكم ، والمعنى : لا يؤاخذكم الله في أيمانكم باللغو ، أي لا يؤاخذكم من بين أيمانكم باليمين اللغو ، والأيمان جمع يمين ، واليمين القسم والحلف ، وهو ذكر اسم الله تعالى ، أو بعض صفاته ، أو بعض شئونه العليا أو شعائره . فقد كانت العرب تحلف بالله ، وبرب الكعبة ، وبالهدي ، وبمناسك الحج . والقسم عندهم بحرف من حروف القسم الثلاثة : الواو والباء والتاء ، وربما ذكروا لفظ حلفت أو أقسمت ، وربما حلفوا بدماء البدن ، وربما قالوا والدماء ، وقد يدخلون لاما على عمر الله ، يقال : لعمر الله ، ويقولون : عمرك الله ، ولم أر أنهم كانوا يحلفون بأسماء الأصنام . فهذا الحلف الذي يراد به التزام فعل ، أو براءة من حق . وقد يحلفون بأشياء عزيزة عندهم لقصد تأكيد الخبر أو الالتزام ، كقولهم وأبيك ولعمرك ولعمري ، ويحلفون بآبائهم ، ولما جاء الإسلام نهى عن الحلف بغير الله . ومن عادة العرب في القسم أن بعض القسم يقسمون به على التزام فعل يفعله المقسم ليلجئ نفسه إلى عمله ولا يندم عنه ، وهو من قبيل قسم النذر ، فإذا أراد أحد أن يظهر عزمه على فعل لا محالة منه ، ولا مطمع لأحد في صرفه عنه ، أكده بالقسم ، قال بلعاء بن قيس :
[ ص: 382 ]
وفارس في غمار الموت منغمس إذا تألى على مكروهة صدقا
قليل الألايي حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت
وقد اختلف العلماء في المراد من لغو اليمين في هذه الآية ، فذهب الجمهور إلى أن اللغو هو اليمين التي تجري على اللسان ، لم يقصد المتكلم بها الحلف ، ولكنها جرت مجرى التأكيد . أو التنبيه ، كقول العرب : لا والله ، وبلى والله ، وقول القائل : والله لقد سمعت من فلان كلاما عجبا ، وغير هذا ليس بلغو ، وهذا قول عائشة ، رواه عنها في الموطأ والصحاح ، وإليه ذهب ، الشعبي وأبو قلابة ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبو صالح ، وأخذ به . والحجة له أن الله قد جعل اللغو قسيما للتي كسبها القلب ، في هذه الآية ، وللتي عقد عليها الحالف اليمين في قوله : الشافعي ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فما عقدتم الأيمان هو ما كسبته القلوب ; لأن ما كسبت قلوبكم مبين ، فيحمل عليه مجمل ما عقدتم ، فتعين أن تكون اللغو هي التي لا قصد فيها إلى الحلف ، وهي التي تجري على اللسان دون قصد ، وعليه فمعنى نفي المؤاخذة نفي المؤاخذة بالإثم وبالكفارة; لأن نفي الفعل يعم ، فاليمين التي لا قصد فيها ، لا إثم ولا كفارة عليها ، وغيرها تلزم فيه الكفارة للخروج من الإثم بدليل آية المائدة; إذ فسر المؤاخذة فيها بقوله فكفارته إطعام عشرة مساكين فيكون في الغموس ، وفي يمين التعليق ، وفي اليمين على الظن ، ثم يتبين خلافه ، الكفارة في جميع ذلك .
وقال مالك : أن يحلف على شيء يظنه كذلك ثم يتبين خلاف ظنه . قال في الموطأ : وهذا أحسن ما سمعت إلي في ذلك وهو مروي في غير الموطأ ، عن لغو اليمين ومن قال به أبي هريرة الحسن ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسدي ، ومكحول ، . وابن أبي نجيح
ووجهه من الآية : أن الله تعالى جعل المؤاخذة على كسب القلب في اليمين ، ولا تكون [ ص: 383 ] المؤاخذة إلا على الحنث ، لا أصل القسم ; إذ لا مؤاخذة لأجل مجرد الحلف لا سيما مع البر ، فتعين أن يكون المراد من كسب القلب كسبه الحنث أي تعمده الحنث ، فهو الذي فيه المؤاخذة ، والمؤاخذة أجملت في هاته الآية ، وبينت في آية المائدة بالكفارة ، فالحالف على ظن يظهر بعد خلافه لا تعمد عنده للحنث ، فهو اللغو ، فلا مؤاخذة فيه ، أي لا كفارة وأما قول الرجل : لا والله وبلى والله ، وهو كاذب ، فهو عند مالك قسم ليس بلغو ، لأن اللغوية تتعلق بالحنث بعد اعتقاد الصدق ، والقائل لا والله كاذبا ، لم يتبين حنثه له بعد اليمين ، بل هو غافل عن كونه حالفا ، فإذا انتبه للحلف ، وجبت عليه المفازة ، لأنه حلفها حين حلفها وهو حانث .
وإنما جعلنا تفسير ما كسبت قلوبكم كسب القلب للحنث ، لأن مساق الآية في الحنث لأن قوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ، إما إذن في الحنث ، أو نهي عن الحلف خشية الحنث ، على الوجهين الماضيين ، وقوله لا يؤاخذكم الله بيان وتعليل لذلك ، وحكم البيان حكم المبين ، لأنه عينه .
وقال جماعة : اللغو ما لم يقصد به الكذب ، فتشمل القسمين ، سواء كان بلا قصد كالتي تجري على الألسن في ( لا والله وبلى والله ) أم كان بقصد ، مع اعتقاد الصدق ، فتبين خلافه . وممن قال بهذا : ، ابن عباس وقال به والشعبي أبو حنيفة ، فقال : اللغو لا كفارة فيها ولا إثم .
واحتج لذلك بأن الله تعالى جعل اللغو هنا ، مقابلا لما كسبته القلوب ، ونفى المؤاخذة عن اللغو ، وأثبتها لما كسبه القلب ، والمؤاخذة لا محالة على الحنث لا على أصل الحلف ، فاللغو هي التي لا حنث فيها ; ولم ير بين آية البقرة وآية المائدة تعارضا حتى يحمل إحداهما على الأخرى بل قال : إن آية البقرة جعلت اللغو مقابلا لما كسبه القلب ، وأثبت المؤاخذة لما كسبه القلب أي عزمت عليه النفس ، والمؤاخذة مطلقة تنصرف إلى أكمل أفرادها ، وهي العقوبة الأخروية فيتعين أنه ما كسبته القلوب ، أريد به الغموس ; وجعل في آية المائدة اللغو مقابلا للأيمان المعقودة ، والعقد في الأصل : الربط ، وهو معناه لغة ، وقد أضافه إلى الأيمان ، فدل على أنها اليمين التي فيها تعليق ، وقد فسر المؤاخذة فيها بقوله : فكفارته إطعام إلخ ، فظهر من الآيتين أن اللغو ما قابل الغموس ، والمنعقدة ، وهو نوعان لا محالة ، وظهر حكم الغموس ، وهي الحلف بقصد الكذب ، فهو الإثم ، وحكم المنعقدة ، أنه الكفارة ، فوافق مالكا في الغموس وخالفه في أحد نوعي اللغو ، وهذا تحقيق مذهبه .
[ ص: 384 ] وفي اللغو غير هذه المذاهب ، مذاهب أنهاها ابن عطية إلى عشرة ، لا نطيل بها .
وقوله والله غفور رحيم تذييل لحكم نفي المؤاخذة ، ومناسبة اقتران وصف الغفور بالحليم هنا ، دون الرحيم لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى ، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم ، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه ، ولا يغضب للغفلة ، ويقبل المعذرة .