إذ جاءوكم بدل من إذ جاءتكم جنود بدل مفصل من مجمل .
والمراد بـ فوق و أسفل " فوق " جهة المدينة وأسفلها .
وإذ زاغت الأبصار عطف على البدل وهو من جملة التفصيل ، والتعريف في الأبصار و القلوب و الحناجر للعهد ، أي أبصار المسلمين وقلوبهم وحناجرهم ، أو تجعل اللام فيها عوضا عن المضافات إليها ، أي زاغت أبصاركم وبلغت قلوبكم حناجركم .
والزيغ : الميل عن الاستواء إلى الانحراف . فزيغ البصر أن لا يرى ما يتوجه إليه ، أو أن يريد التوجه إلى صوب فيقع إلى صوب آخر من شدة الرعب والانذعار .
والحناجر : جمع حنجرة بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم : منتهى الحلقوم وهي رأس الغلصمة . وبلوغ القلوب الحناجر تمثيل لشدة اضطراب القلوب من الفزع والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مقارها وترتفع طالبة الخروج من الصدور فإذا بلغت الحناجر لم تستطع تجاوزها من الضيق ; فشبهت هيئة قلب الهلوع المرعود بهيئة قلب تجاوز موضعه وذهب متصاعدا طالبا الخروج ، فالمشبه القلب نفسه باعتبار اختلاف الهيئتين .
[ ص: 281 ] وليس الكلام على الحقيقة فإن القلوب لا تتجاوز مكانها ، وقريب منه قولهم : تنفس الصعداء ، وبلغت الروح التراقي .
وجملة وتظنون بالله الظنون يجوز أن تكون عطفا على جملة زاغت الأبصار ، ويجوز أن يكون الواو للحال وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد تلك الظنون بتجدد أسبابها كناية عن طول مدة هذا البلاء .
وفي صيغة المضارع معنى التعجيب من ظنونهم لإدماج العتاب بالامتنان فإن شدة الهلع الذي أزاغ الأبصار وجعل القلوب بمثل حالة أن تبلغ الحناجر ، دل على أنهم أشفقوا من أن يهزموا لما رأوا من قوة الأحزاب وضيق الحصار أو خافوا طول مدة الحرب وفناء الأنفس ، أو أشفقوا من أن تكون من الهزيمة جراءة للمشركين على المسلمين ، أو نحو ذلك من أنواع الظنون وتفاوت درجات أهلها .
والمؤمن وإن كان يثق بوعد ربه لكنه لا يأمن غضبه من جراء تقصيره ، ويخشى أن يكون النصر مرجأ إلى زمن آخر ، فإن ما في علم الله وحكمته لا يحاط به .
وحذف مفعولا ( تظنون ) بدون وجود دليل يدل على تقديرهما فهو حذف لتنزيل الفعل منزلة اللازم ، ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف اقتصارا ، أي للاقتصار على نسبة فعل الظن لفاعله ، والمقصود من هذا التنزيل أن تذهب نفس السامع كل مذهب ممكن ، وهو حذف مستعمل كثيرا في الكلام الفصيح وعلى جوازه أكثر النحويين ومنه قوله تعالى : أعنده علم الغيب فهو يرى وقوله وظننتم ظن السوء ، وقول المثل : من يسمع يخل ، ومنعه سيبويه والأخفش .
وضمن ( تظنون ) معنى تلحقون فعدي بالباء فالباء للملابسة . قال : قولهم : ظننت به ، معناه : جعلته موضع ظني ، وليست الباء هنا بمنزلتها في سيبويه وكفى بالله حسيبا ، أي ليست زائدة ، ومجرورها معمول للفعل قبلها كأنك قلت : ظننت في الدار ، ومثله : شككت فيه ، أي فالباء عنده بمعنى " في " . والوجه أنها للملابسة كقول دريد بن الصمة : فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد [ ص: 282 ] وسيأتي تفصيل ذلك عند قوله تعالى : فما ظنكم برب العالمين في سورة الصافات .
وانتصب ( الظنونا ) على المفعول المطلق المبين للعدد ، وهو جمع ظن . وتعريفه باللام تعريف الجنس ، وجمعه للدلالة على أنواع من الظن كما في قول النابغة :
أتيتك عاريا خلقا ثيابي
على خوف تظن بي الظنون
وعن أبي علي في الحجة : من أثبت الألف في الوصل لأنها في المصحف كذلك وهو رأس آية ورءوس الآيات تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع ، فأما من طرح الألف في الوصل فإنه ذهب إلى أن ذلك في القوافي وليس رءوس الآي بقواف .
فأما القراء فقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بإثبات الألف في الوصل والوقف . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم بحذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف . وقرأ والكسائي أبو عمرو وحمزة ويعقوب بحذف الألف في الوصل والوقف ، وقرأ خلف بإثبات الألف بعد النون في الوقف وحذفها في الوصل . وهذا اختلاف من قبيل الاختلاف في وجوه الأداء لا في لفظ القرآن . وهي كلها فصيحة مستعملة والأحسن الوقف عليها لأن الفواصل كالأسجاع والأسجاع كالقوافي .
والإشارة بـ هنالك إلى المكان الذي تضمنه قوله جاءتكم جنود وقوله إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم . والأظهر أن تكون الإشارة إلى الزمان الذي دلت عليه إذ في قوله وإذ زاغت الأبصار . وكثيرا ما ينزل أحد الظرفين منزلة الآخر ولهذا قال ابن عطية : هنالك ظرف زمان والعامل فيه [ ص: 283 ] ابتلي اهـ . قلت : ومنه دخول ( لات ) على ( هنا ) في قول حجل بن نضلة :
خنت نوار ولات هنا حنت وبدا الذي كانت نوار أجنت
والابتلاء : أصله الاختبار ، ويطلق كناية عن إصابة الشدة لأن اختبار حال الثبات والصبر لازم لها ، وسمى الله ما أصاب المؤمنين ابتلاء إشارة إلى أنه لم يزعزع إيمانهم .
والزلزال : اضطراب الأرض ، وهو مضاعف زل تضعيفا يفيد المبالغة ، وهو هنا استعارة لاختلال الحال اختلالا شديدا بحيث تخيل مضطربة اضطرابا شديدا كاضطراب الأرض وهو أشد اضطرابا للحاقه أعظم جسم في هذا العالم . ويقال : زلزل فلان ، مبنيا للمجهول تبعا لقولهم : زلزلت الأرض ، إذ لا يعرف فاعل هذا الفعل عرفا . وهذا هو غالب استعماله قال تعالى : وزلزلوا حتى يقول الرسول الآية .
والمراد بزلزلة المؤمنين شدة الانزعاج والذعر لأن أحزاب العدو تفوقهم عددا وعدة .