الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان
استئناف لذكر غاية الطلاق ، الذي يملكه الزوج من امرأته ، نشأ عن قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا وعن بعض ما يشير إليه قوله تعالى وللرجال عليهن درجة فإن الله تعالى أعلن أن للنساء حقا ، كحق الرجال ، وجعل للرجال درجة زائدة : منها أن لهم حق الطلاق ، ولهم حق الرجعة لقوله وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ولما كان أمر العرب في الجاهلية جاريا على عدم تحديد نهاية الطلاق ، كما سيأتي قريبا ، ناسب أن يذكر عقب ذلك كله حكم تحديد الطلاق ، إفادة للتشريع في هذا الباب ودفعا لما قد يعلق أو علق بالأوهام في شأنه .
روى مالك في جامع الطلاق من الموطأ : عن عن أبيه أنه قال : كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك وإن طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها ثم قال والله لا آويك ولا تحلين أبدا فأنزل الله تعالى هشام بن عروة الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق .
[ ص: 404 ] وروى أبو داود ، عن والنسائي قريبا منه . ورواه ابن عباس الحاكم في مستدركه إلى عن عروة بن الزبير عائشة ، قالت : لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال : والله لا تركتك لا أيما ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ففعل ذلك مرارا فأنزل الله تعالى الطلاق مرتان ، وفي ذلك روايات كثيرة تقارب هذه ، وفي سنن أبي داود : باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث وأخرج حديث أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك ونزل ابن عباس الطلاق مرتان . فالآية على هذا إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية ، وتحديد لحقوق البعولة في المراجعة .
والتعريف في قوله الطلاق تعريف الجنس ، على ما هو المتبادر في تعريف المصادر ، وفي مساق التشريع ، فإن التشريع يقصد بيان الحقائق الشرعية ، نحو قوله وأحل الله البيع وقوله وإن عزموا الطلاق وهذا التعريف هو الذي أشار صاحب الكشاف إلى اختياره ، فالمقصود هنا الطلاق الرجعي الذي سبق الكلام عليه آنفا في قوله وبعولتهن أحق بردهن في ذلك فإنه الطلاق الأصلي ، وليس في أصل الشريعة طلاق بائن غير قابل للمراجعة لذاته ، إلا الطلقة الواقعة ثالثة ، بعد سبق طلقتين قبلها فإنها مبينة بعد وأما ما عداها من الطلاق البائن الثابت بالسنة ، فبينونته لحق عارض كحق الزوجة فيما تعطيه من مالها في الخلع ، ومثل الحق الشرعي في تطليق اللعان ، لمظنة انتفاء حسن المعاشرة ، بعد أن تلاعنا ، ومثل حق المرأة في حكم الحاكم لها بالطلاق للإضرار بها ، وحذف وصف الطلاق ، لأن السياق دال عليه ، فصار التقدير : الطلاق الرجعي مرتان . وقد أخبر عن الطلاق بأنه مرتان ، فعلم أن التقدير : ، فأما الطلقة الثالثة فليست برجعية . وقد دل على هذا قوله تعالى بعد ذكر المرتين حق الزوج في إيقاع التطليق الرجعي مرتان فإمساك بمعروف وقوله بعده فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره الآية وقد روي مثل هذا التفسير عن النبيء صلى الله عليه وسلم : روى أبو بكر بن أبي شيبة الطلاق مرتان فأين الثالثة فقال رسول الله عليه السلام : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وسؤال الرجل [ ص: 405 ] عن الثالثة ، يقتضي أن نهاية الثلاث كانت حكما معروفا إما من السنة ، وإما من بقية الآية ، وإنما سأل عن وجه قوله مرتان . أن رجلا جاء إلى النبيء صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت قول الله تعالى
ولما كان المراد بيان حكم جنس الطلاق ، باعتبار حصوله من فاعله ، وهو إنما يحصل من الأزواج كان لفظ الطلاق آيلا إلى معنى التطليق ، كما يئول السلام إلى معنى التسليم .
وقوله مرتان ، تثنية مرة ، والمرة في كلامهم الفعلة الواحدة من موصوفها ، أو مضافها ، فهي لا تقع إلا جارية على حدث ، بوصف ونحوه ، أو بإضافة ونحوها ، وتقع مفردة ، ومثناة ، ومجموعة ، فتدل على عدم تكرر الفعل ، أو تكرر فعله تكررا واحدا ، أو تكرره تكررا متعددا ، قال تعالى سنعذبهم مرتين وتقول العرب : نهيتك غير مرة فلم تنته ; أي مرارا ، وليس لفظ المرة بمعنى الواحدة من الأشياء الأعيان ، ألا ترى أنك تقول : أعطيتك درهما مرتين ، إذا أعطيته درهما ثم درهما ، فلا يفهم أنك أعطيته درهمين مقترنين ، بخلاف قولك : أعطيتك درهمين .
فقوله تعالى الطلاق مرتان يفيد أن الطلاق الرجعي ، شرع فيه حق التكرير إلى حد مرتين . مرة عقب مرة أخرى لا غير ، فلا يتوهم منه ، في فهم أهل اللسان ، أن المراد : الطلاق لا يقع إلا طلقتين مقترنتين لا أكثر ولا أقل ، ومن توهم ذلك فاحتاج إلى تأويل لدفعه فقد أبعد عن مجاري الاستعمال العربي ، ولقد أكثر جماعة من متعاطي التفسير الاحتمالات في هذه الآية والتفريع عليها ، مدفوعين بأفهام مولدة ، ثم طبقوها على طرائق جدلية في الاحتجاج لاختلاف المذاهب في إثبات الطلاق البدعي أو نفيه ، وهم في إرخائهم طول القول ناكبون عن معاني الاستعمال ، ومن المحققين من لم يفته المعنى ولم تف به عبارته كما وقع في الكشاف .
ويجوز أن يكون تعريف الطلاق تعريف العهد ، والمعهود هو ما يستفاد من قوله تعالى والمطلقات يتربصن إلى قوله وبعولتهن أحق بردهن فيكون كالعهد في تعريف الذكر في قوله تعالى وليس الذكر كالأنثى فإنه معهود مما استفيد من قوله إني نذرت لك ما في بطني محررا .
وقوله فإمساك بمعروف جملة مفرعة على جملة الطلاق مرتان فيكون الفاء للتعقيب في مجرد الذكر ، لا في وجود الحكم . وإمساك خبر مبتدأ محذوف ، تقديره [ ص: 406 ] فالشأن أو فالأمر إمساك بمعروف أو تسريح ، على طريقة فصبر جميل وإذ قد كان الإمساك والتسريح ممكنين عند كل مرة من مرتي الطلاق ، كان المعنى فإمساك أو تسريح في كل مرة من المرتين ، أي شأن الطلاق أن تكون كل مرة منه معقبة بإرجاع بمعروف أو ترك بإحسان ، أي دون ضرار في كلتا الحالتين .
وعليه فإمساك وتسريح مصدران ، مراد منهما الحقيقة والاسم ، دون إرادة نيابة عن الفعل ، والمعنى أن المطلق على رأس أمره فإن كان راغبا في امرأته فشأنه إمساكها أي مراجعتها ، وإن لم يكن راغبا فيها فشأنه ترك مراجعتها فتسرح ، والمقصود من هذه الجملة إدماج الوصاية بالإحسان في حال المراجعة ، وفي حال تركها ، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء ، إبطالا لأفعال أهل الجاهلية ; إذ كانوا قد يراجعون المرأة بعد الطلاق ثم يطلقونها دواليك ، لتبقى زمنا طويلا في حالة ترك إضرارا بها ، إذ لم يكن الطلاق عندهم منتهيا إلى عدد لا يملك بعده المراجعة ، وفي هذا تمهيد لما يرد بعده من قوله ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الآية .
ويجوز أن يكون إمساك وتسريح مصدرين جعلا بدلين من فعليهما ، على طريقة المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله ، وأصلهما النصب ، ثم عدل عن النصب إلى الرفع لإفادة معنى الدوام ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في قوله تعالى قال سلام وقد مضى أول سورة الفاتحة ، فيكون مفيدا معنى الأمر ، بالنيابة عن فعله ، ومفيدا الدوام بإيراد المصدرين مرفوعين ، والتقدير فأمسكوا أو سرحوا .
فتبين أن الطلاق حدد بمرتين ، قابلة كل منهما للإمساك بعدها ، والتسريح بإحسان توسعة على الناس ليرتئوا بعد الطلاق ما يليق بحالهم وحال نسائهم ، فلعلهم تعرض لهم ندامة بعد ذوق الفراق ويحسوا ما قد يغفلون عن عواقبه حين إنشاء الطلاق ، عن غضب أو عن ملالة ، كما قال تعالى لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا وقوله ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا وليس ذلك ليتخذوه ذريعة للإضرار بالنساء كما كانوا يفعلون قبل الإسلام .
وقد ظهر من هذا أن المقصود من الجملة هو الإمساك أو التسريح المطلقين وأما تقييد الإمساك بالمعروف ، والتسريح بالإحسان ، فهو إدماج لوصية أخرى في كلتا الحالتين ، إدماجا للإرشاد في أثناء التشريع .
[ ص: 407 ] وقدم الإمساك على التسريح إيماء إلى أنه الأهم ، المرغب فيه في نظر الشرع . والإمساك حقيقته قبض اليد على شيء مخافة أن يسقط أو يتفلت ، وهو هنا استعارة لدوام المعاشرة . والتسريح ضد الإمساك في معنييه : الحقيقي ، والمجازي ، وهو مستعار هنا لإبطال سبب المعاشرة بعد الطلاق ، وهو سبب الرجعة ثم استعارة ذلك الإبطال للمفارقة فهو مجاز بمرتبتين .
والمعروف هنا هو ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي أحكام الإسلام .
وهو يناسب الإمساك ، لأنه يشتمل على أحكام العصمة كلها من إحسان معاشرة ، وغير ذلك ، فهو أعم من الإحسان . وأما التسريح فهو فراق ومعروفه منحصر في الإحسان إلى المفارقة بالقول الحسن ، والبذل بالمتعة ، كما قال تعالى فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا وقد كان الأزواج يظلمون المطلقات ويمنعونهن من حليهن ، ورياشهن ، ويكثرون الطعن فيهن قال ، في تفسيره : فإن قلت هلا قيل فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف قلت عادتهم يجيبون بأن المعروف أخف من الإحسان إذ المعروف حسن العشرة وإعطاء حقوق الزوجية ، والإحسان ألا يظلمها من حقها فيقتضي الإعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن المعاشرة فجعل المعروف مع الإمساك المقتضي دوام العصمة ، إذ لا يضر تكرره وجعل الإحسان الشاق مع التسريح الذي لا يتكرر . ابن عرفة
وقد أخذ قوم من الآية منع الجمع بين الطلاق الثلاث في كلمة ، بناء على أن المقصود من قوله مرتان التفريق وسنذكر ذلك عند قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد الآية .