والاستفهام للتعجب الذي يخالطه إنكار على انتفاء تأملهم فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ، أي من المخلوقات العظيمة الدالة على أن الذي قدر على خلق تلك المخلوقات من عدم هو قادر على تجديد خلق الإنسان بعد العدم .
والرؤية بصرية بقرينة تعليق ( إلى ) . فمعنى الاستفهام عن انتفائها منهم انتفاء آثارها من فشبه وجود الرؤية بعدمها واستعير له حرف النفي . والمقصود : حثهم على التأمل والتدبر ليتداركوا علمهم بما أهملوه . وهذا كقوله الاستدلال بأحوال الكائنات السماوية والأرضية على إمكان البعث ، أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون .
[ ص: 153 ] والمراد بـ ( ما بين أيديهم ) ما يستقبله كل أحد منهم من الكائنات السماوية والأرضية ، وبـ ( ما خلفهم ) ما هو وراء كل أحد منها فإنهم لو شاءوا لنظروا إليه بأن يلتفتوا إلى ما وراءهم ، وذلك مثل أن ينظروا النصف الشمالي من الكرة السماوية في الليل ثم ينظروا النصف الجنوبي منها فيروا كواكب ساطعة بعضها طالع من مشرقه وبعضها هاو إلى مغربه وقمرا مختلف الأشكال باختلاف الأيام ، وفي النهار بأن ينظروا إلى الشمس بازغة وآفلة ، وما يقارن ذلك من إسفار وأصيل وشفق . وكذلك النظر إلى جبال الأرض وبحارها وأوديتها وما عليها من أنواع الحيوان واختلاف أصنافه .
و ( من ) في قوله ( من السماء والأرض ) تبعيضية .
و ( السماء والأرض ) أطلقتا على محوياتهما كما أطلقت القرية على أهلها في قوله واسأل القرية .
وجملة إن نشأ نخسف بهم الأرض اعتراض بالتهديد فمناسبة التعجيب الإنكاري بما يذكرهم بقدرة صانع تلك المصنوعات العظيمة على عقاب الذين أشركوا معه غيره والذين ضيقوا واسع قدرته وكذبوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما يخطر في عقولهم ذكر الأمم التي أصابها عقاب بشيء من الكائنات الأرضية كالخسف أو السماوية كإسقاط كسف من الأجرام السماوية مثل ما أصاب قارون من الخسف وما أصاب أهل الأيكة من سقوط الكسف .
وقرأ وحده ( نخسبهم ) بإدغام الفاء في الباء ، قال الكسائي أبو علي : وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم الفاء في الباء ، وإن كانت الباء تدغم في الفاء كقولك : اضرب فلانا ، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقولك : اضرب مالكا ، ولا تدغم الميم في الباء كقولك : اضمم بكرا ؛ لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم ، وهذا رد للرواية بالقياس وهو غصب .
والكسف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة الجمهور ، وهو القطعة من [ ص: 154 ] الشيء . وقد تقدم في قوله تعالى أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا في سورة الإسراء .
وقرأ الجمهور ( نخسف ) و ( نسقط ) بنون العظمة . وقرأها حمزة ، ، والكسائي وخلف بياء الغائب على الالتفات من مقام التكلم إلى مقام الغيبة ، ومعاد الضميرين معروف من سياق الكلام . وجملة إن في ذلك لآية لكل عبد منيب تعليل للتعجيب الإنكاري باعتبار ما يتضمنه من الحث على التأمل والتدبر كما تقدم آنفا ، فموقع حرف التوكيد هنا لمجرد التعليل ، كقول بشار :
إن ذاك النجاح في التبكير
ولك أن تجعل الجملة تذييلا . والمشار إليه هو ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ، أي من الكائنات فيهما .والآية : الدليل . والتعريف للجنس ، فالمفرد المعرف مساو للجمع ، أي لآيات كثيرة ، والمنيب : الراجع بفكره إلى البحث عما فيه كماله النفساني وحسن مصيره في الآخرة فهو يقدر المواعظ حق قدرها ويتلقاها بالشك في الحالة التي وعظ من أجلها فيعاود النظر حتى يهتدي ولا يرفض نصح الناصحين وإرشاد المرشدين مترديا برداء المتكبرين فهو لا يخلو من النظر في ، ومن أكبر المنيبين المؤمنون مع رسولهم . دلائل قدرة الله