والإعراض يقتضي سبق دعوة رسول أو نبي ، والمعنى : أعرضوا عن الاستجابة لدعوة التوحيد بالعودة إلى عبادة الشمس بعد أن أقلعوا في زمن سليمان وبلقيس فلعل بلقيس كانت حولتهم من عبادة الشمس فقط فقد كانت الأمم تتبع أديان ملوكهم وقد قيل إن بلقيس لم تعمر بعد زيارة سليمان إلا بضع سنين [ ص: 169 ] والإرسال : الطلاق وهو ضد الحبس ، وتعديته بحرف " على " مؤذنة بأنه إرسال نقمة فإن سيل العرم كان محبوسا بالسد في مأرب فكانوا يرسلون منه بمقدار ما يسقون جناتهم ، فلما كفروا بالله بعد الدعوة للتوحيد قدر الله لهم عقابا بأن قدر أسباب انهدام السد فاندفع ما فيه من الماء فكان لهم خطرا وإتلافا للأنعام والأشجار ، ثم أعقبه جفاف باختلاف نظام تساقط الأمطار وانعدام الماء وقت الحاجة إليه ، وهذا جزاء على إعراضهم وشركهم .
والعرم : يجوز أن يكون وصفا من العرامة وهي الشدة والكثرة فتكون إضافة السيل إلى العرم من إضافة الموصوف إلى الصفة . ويجوز أن يكون العرم اسما للسيل الذي كان ينصب في السد فتكون الإضافة من إضافة المسمى إلى الاسم ، أي السيل العرم .
وكانت للسيول والأودية في بلاد العرب أسماء كقولهم : سيل مهزور ومذينيب الذي كانت تسقى به حدائق المدينة ، ويدل على هذا المعنى قول الأعشى :
ومأرب عفى عليها العرم وقيل :
العرم : اسم جمع ( عرمة ) بوزن شجرة ، وقيل لا واحد له من لفظه ، وهو ما بني ليمسك الماء ، لغة يمنية وحبشية . وهي المسناة بلغة أهل الحجاز ، والمسناة بوزن مفعلة التي هي اسم الآلة مشتق من سنيت بمعنى سقيت ، ومنه سميت الساقية سانية وهي الدلو المستقى به والإضافة على هذين أصيلة .
والمعنى : أرسلنا السيل الذي كان مخزونا بالسد .
وكان لأهل سبأ سد عظيم قرب بلاد مأرب ( ومأرب من كور اليمن ) وكان أعظم السداد في بلاد اليمن التي كانت فيها سداد كثيرة متفرقة وكانوا جعلوا هذه السداد لخزن الماء الذي تأتي به السيول في وقت نزول الأمطار في الصيف والخريف ، فكانوا يعمدون إلى ممرات السيول من بين الجبال فيبنون في ممر الماء سورا من صخور يبنونها بناء محكما يصبون في الشقوق التي بين الصخور القار حتى تلتئم فينحبس الماء الذي يسقط هنالك حتى إذا امتلأ الخزان جعلوا بجانبيه [ ص: 170 ] جوابي عظيمة يصب فيها الماء يفيض من أعلى السد فيقيمون من ذلك ما يستطيعون من توفير الماء المختزن .
وكان مأرب الذي يحفظ فيه سيل العرم شرع في بنائه سد سبأ أول ملوك هذه الأمة ولم يتمه فأتمه ابنه حمير . وأما ما يقال من أن بلقيس بنته فذلك اشتباه إذ لعل بلقيس بنت حوله خزانات أخرى فرعية أو رممت بناءه ترميما أطلق عليه اسم البناء ، فقد كانوا يتعهدون تلك السداد بالإصلاح والترميم كل سنة حتى تبقى تجاه قوة السيول الساقطة فيها .
وكانوا يجعلون للسد منافذ مغلقة يزيلون عنها السكر إذا أرادوا إرسال الماء إلى الجهات المتفرقة التي تسقى منه إذ جعلوا جناتهم حول السد مجتمعة . وكان يصب في سد مأرب سبعون واديا .
وجعلوا هذا السد بين جبلين يعرف كلاهما بالبلق فهما البلق الأيمن والبلق الأيسر .
وأعظم الأودية التي كانت تصب فيه اسمه " إذنه " فقالوا : إن الأودية كانت تأتي إلى سبأ من الشجر وأودية اليمن .
وهذا السد حائط طوله من الشرق إلى الغرب ثمانمائة ذراع وارتفاعه بضع عشرة ذراعا وعرضه مائة وخمسون ذراعا .
وقد شاهده الحسن الهمداني ووصفه في كتابه المسمى بالإكليل وهو من أهل أوائل القرن الرابع بما سمعت حاصله . ووصفه الرحالة ( أرنو ) الفرنسي سنة 1883 والرحالة غلازر الفرنسي .
ولا يعرف وقت انهدام هذا السد ولا أسباب ذلك . والظاهر أن سبب انهدامه اشتغال ملوكهم بحروب داخلية بينهم ألهتهم عن تفقد ترميمه حتى تخرب ، أو يكون قد خربه بعض من حاربهم من أعدائهم ، وأما ما يذكر في القصص من أن السد خربته الجرذان فذلك من الخرافات .
وفي العرم قال : النابغة الجعدي
من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما
فالمعنى : أعطيناهم أشجار خمط وأثل وسدر عوضا عن جنتيهم ، أي صارت بلادهم صحراء قاحلة ليس فيها إلا شجر العضاة والبادية ، وفيما بين هذين الحالين أحوال عظيمة انتابتهم فقاسوا العطش وفقدان الثمار حتى اضطروا إلى مفارقة تلك الديار فلما كانت هذه النهاية دالة على تلك الأحوال طوي ذكر ما قبلها واقتصر على وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط إلى آخره .
وإطلاق اسم الجنتين على هذه المنابت مشاكلة للتهكم كقول عمرو بن كلثوم :
قريناكم فعجلنا قراكم قبيل الصبح مرادة طحونا
وقد وصف الأعشى هذه الحالة بدءا ونهاية بقوله :
وفي ذاك للمؤنسي عبرة ومأرب عفى عليه العرم
رخام بنته لهم حمير إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها على سعة ماؤهم إذا قسم
فعاشوا بذلك في غبطة فحاربهم جارف منهزم
فطار القيول وقيلاتها ببهماء فيها سراب يطم
فطاروا سراعا وما يقدرو ن منه لشرب صبي فطم
والسدر : أكثرها ظلا وأنفعها لأنه يغسل بورقه مع الماء فينظف وفيه رائحة حسنة ولذلك وصف هنا بالقليل لإفادة أن معظم شجرهم لا فائدة منه ، وزيد [ ص: 172 ] تقليله قلة بذكر كلمة شيء المؤذنة في ذاتها بالقلة ، يقال شيء من كذا ، إذا كان قليلا .
وفي القرآن وما أغنى عنكم من الله شيئا .
والأكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف : المأكول . قرأ نافع وابن كثير بضم الهمزة وسكون الكاف . وقرأه باقي العشرة بضم الكاف وقرأ الجمهور أكل بالتنوين مجرورا فإذا كان خمط مرادا به الشجر المسمى بالخمط ، فلا يجوز أن يكون خمط صفة لـ " أكل " لأن الخمط شجر ، ولا أن يكون بدلا من " أكل " كذلك ، ولا عطف بيان كما قدره أبو علي لأن عطف البيان كالبدل المطابق ، فتعين أن يكون خمط هنا صفة يقال : شيء خامط إذا كان مرا .
وقرأه أبو عمرو ويعقوب " أكل " بالإضافة إلى خمط ، فالخمط إذن مراد به شجر الأراك ، وأكله ثمره وهو البرير وهو مر الطعم .
ومعنى " ذواتي أكل " صاحبتي أكل فـ ( ذوات ) جمع ذات التي بمعنى صاحبة ، وهي مؤنث ذو بمعنى صاحب ، وأصل ذات ذواة بهاء التأنيث مثل نواة ووزنها فعلة بفتحتين ولامها واو ، فأصلها ذووة فلما تحركت الواو إثر فتحة قلبت ألفا ثم خففوها في حال الإفراد بحذف العين فقالوا : ذات . فوزنها فلت أو فله . وقال الجوهري : أصل التاء في ( ذات ) هاء مثل نواة لأنك إذا وقفت عليها في الواحد قلت : ذاه بالهاء ، ولكنهم لما وصلوا بما بعدها بالإضافة صارت تاء ويدل لكون أصلها هاء أنه إذا صغر يقال : ذويه بهاء التأنيث اهـ . ولم يبين أئمة اللغة وجه هذا الإبدال ولعله لكون الكلمة بنيت على حرف واحد وألف هي مدة الفتحة فكان النطق بالهاء بعدهما ثقيلا في حال الوقف ، ثم لما ثنوها ردوها إلى أصلها لأن التثنية ترد الأشياء إلى أصولها فقالوا : ذواتا كذا ، وحذفت النون للزوم إضافته ، وأصله : ذويات . فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ووزنه فعلتان وصار وزنه بعد القلب فعاتان وإذا جمعوها عادوا إلى الحذف فقالوا ذوات كذا بمعنى صاحبات ، وأصله ذويات فقلب الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، [ ص: 173 ] فأصل وزن ذواتي فعلات ثم صار وزنه بعد القلب فعات ، وهو مما ألحق بجمع المؤنث السالم لأن تاءه في المفرد أصلها هاء ، وأما تاؤه في الجمع فهي تاء صارت عوضا عن الهاء التي في المفرد على سنة الجمع بألف وتاء .