عطف على جملة فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا الآية عطف حكم على حكم ، وتشريع على تشريع ، لقصد زيادة الوصاة بحسن المعاملة في الاجتماع والفرقة ، وما تبع ذلك من التحذير الذي سيأتي بيانه .
وقوله فبلغن أجلهن مؤذن بأن المراد : وإذا طلقتم النساء طلاقا فيه أجل . والأجل هنا لما أضيف إلى ضمير النساء المطلقات علم أنه أجل معهود بالمضاف إليه . أعني أجل الانتظار ، وهو العدة ، وهو التربص في الآية السابقة .
وبلوغ الأجل : الوصول إليه ، والمراد به هنا مشارفة الوصول إليه بإجماع العلماء ; لأن الأجل إذا انقضى زال التخيير بين الإمساك والتسريح ، وقد يطلق البلوغ على مشارفة الوصول ومقاربته ، توسعا أي مجازا بالأول . وفي القاعدة الخامسة من الباب الثامن من مغني اللبيب ، أن العرب يعبرون بالفعل عن أمور : أحدها ، وهو الكثير المتعارف ، عن حصول الفعل ، وهو الأصل . الثاني : عن مشارفته نحو وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم أي يقاربون الوفاة ، لأنه حين الوصية . [ ص: 422 ] الثالث : إرادته نحو إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا .
الرابع : القدرة عليه نحو وعدا علينا إنا كنا فاعلين أي قادرين .
( والأجل ) في كلام العرب يطلق على المدة التي يمهل إليها الشخص في حدوث حادث معين ، ومنه قولهم : ضرب له أجلا ، أيما الأجلين قضيت .
والمراد بالأجل هنا آخر المدة ، لأن قوله ( فبلغن ) مؤذن بأنه وصول بعد مسير إليه ، وأسند بلغن إلى النساء لأنهن اللاتي ينتظرن انقضاء الأجل ، ليخرجن من حبس العدة ، وإن كان الأجل للرجال والنساء معا : للأولين توسعة للمراجعة ، وللأخيرات تحديدا للحل للتزوج . وأضيف الأجل إلى ضمير النساء لهاته النكتة .
والقول في الإمساك والتسريح مضى قريبا . وفي هذا الوجه تكرير الحكم المفاد بقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فأجيب عن هذا بما قاله الفخر : إن الآية السابقة أفادت التخيير بين الإمساك والتسريح ، في مدة العدة ، وهذه أفادت ذلك التخيير في آخر أوقات العدة ، تذكيرا بالإمساك وتحريضا على تحصيله ، ويستتبع هذا التذكير الإشارة إلى الترغيب في الإمساك ، من جهة إعادة التخيير بعد تقدم ذكره ، وذكر التسريح هنا مع الإمساك ليظهر معنى التخيير بين أمرين وليتوسل بذلك إلى الإشارة إلى رغبة الشريعة في الإمساك ، وذلك بتقديمه في الذكر ; إذ لو لم يذكر الأمران لما تأتى التقديم المؤذن بالترغيب وعندي أنه على هذا الوجه أعيد الحكم ، وليبني عليه ما قصد من النهي عن الضرار وما تلا ذلك من التحذير والموعظة وذلك كله مما أبعد عن تذكره الجمل السابقة : التي اقتضى الحال الاعتراض بها .
وقوله أو سرحوهن بمعروف قيد التسريح هنا بالمعروف ، وقيد في قوله السالف أو تسريح بإحسان ، بالإحسان للإشارة إلى أن الإحسان المذكور هنالك ، هو عين المعروف الذي يعرض للتسريح ، فلما تقدم ذكره لم يحتج هنا إلى الفرق بين قيده وقيد الإمساك . أو لأن إعادة أحوال الإمساك والتسريح هنا ليبني عليه النهي عن المضارة ، والذي تخاف مضارته بمنزلة بعيدة عن أن يطلب منه الإحسان ، فطلب منه الحق ، وهو المعروف الذي عدم المضارة من فروعه ، سواء في الإمساك أو في التسريح ، ومضارة كل بما يناسبه .
وقال : تقدم أن المعروف أخف من الإحسان فلما وقع الأمر في الآية الأخرى [ ص: 423 ] بتسريحهن ، مقارنا للإحسان ، خيف أن يتوهم أن الأمر بالإحسان عند تسريحهن للوجوب فعقبه بهذا تنبيها على أن الأمر للندب لا للوجوب . ابن عرفة
وقوله ولا تمسكوهن ضرارا تصريح بمفهوم فأمسكوهن بمعروف إذ الضرار ضد المعروف ، وكأن وجه عطفه مع استفادته من الأمر بضده التشويه بذكر هذا الضد لأنه أكثر أضداد المعروف يقصده الأزواج المخالفون لحكم الإمساك بالمعروف ، مع ما فيه من التأكيد ، ونكتته تقرير المعنى المراد في الذهن بطريقتين غايتهما واحدة وقال الفخر : نكتة عطف النهي على الأمر بالضد في الآية هي أن الأمر لا يقتضي التكرار بخلاف النهي ، وهذه التفرقة بين الأمر والنهي غير مسلمة ، وفيها نزاع في علم الأصول ، ولكنه بناها على أن الفرق بين الأمر والنهي هو مقتضى اللغة . على أن هذا العطف إن قلنا : إن المعروف في الإمساك حيثما تحقق انتفى الضرار ، وحيثما انتفى المعروف تحقق الضرار ، فيصير الضرار مساويا لنقيض المعروف ، قلنا أن نجعل نكتة العطف ، حينئذ ، لتأكيد حكم الإمساك بالمعروف : بطريقي إثبات ، ونفي ، كأنه قيل : ( ولا تمسكوهن إلا بالمعروف ) ، كما في قول السموأل :
تسيل على حد الظبات نفوسنـا وليست على غير الظبات تسيل
والضرار مصدر ضار ، وأصل هذه الصيغة أن تدل على وقوع الفعل من الجانبين ، مثل خاصم ، وقد تستعمل في الدلالة على قوة الفعل مثل : عافاك الله ، والظاهر أنها هنا مستعملة للمبالغة في الضر ، تشنيعا على من يقصده بأنه مفحش فيه . ونصب ضرارا على الحال أو المفعولية لأجله .وقوله لتعتدوا جر باللام ولم يعطف بالفاء ; لأن الجر باللام هو أصل التعليل ، وحذف مفعول ( تعتدوا ) ليشمل الاعتداء عليهن ، وعلى أحكام الله تعالى ، فتكون اللام مستعملة في التعليل والعاقبة . والاعتداء على أحكام الله لا يكون علة للمسلمين ، فنزل منزلة العلة مجازا في الحصول ، تشنيعا على المخالفين ، فحرف اللام مستعمل في حقيقته ومجازه .
وقوله فقد ظلم نفسه جعل ظلمهم نساءهم ظلما لأنفسهم ، لأنه يؤدي إلى اختلال المعاشرة ، واضطراب حال البيت ، وفوات المصالح : بشغب الأذهان في المخاصمات . وظلم نفسه أيضا بتعريضها لعقاب الله في الآخرة .