وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون عطف على جملة إذ الظالمون موقوفون ، والتقدير : ولو ترى إذ جعلنا الأغلال في رقبة المأسور ونحوه ويشد إليها بسلسلة أو سير من جلد أو حبل ، وتقدم في أول سورة الرعد . وجعل الأغلال في الأعناق شعار على أنهم يساقون إلى ما يحاولون الفرار والانفلات منه . وتقدم عند قوله تعالى وأولئك الأغلال في أعناقهم في الرعد . والذين كفروا هم هؤلاء الذين جرت عليهم الضمائر المتقدمة فالإتيان بالاسم الظاهر وكونه موصولا للإيماء إلى أن ذلك جزاء الكفر ، ولذلك عقب بجملة هل يجزون إلا ما كانوا يعملون مستأنفة استئنافا بيانيا [ ص: 211 ] كأن سائلا استعظم هذا العذاب وهو تعريض بهم .
والاستفهام بـ " هل " مستعمل في الإنكار باعتبار ما يعقبه من الاستثناء ، فتقدير المعنى : هل جزوا بغير ما كانوا يعملون ، والاستثناء مفرغ .
وما كانوا يعملون هو المفعول الثاني لفعل يجزون لأن جزى يتعدى إلى مفعول ثان بنفسه لأنه من باب أعطى ، كما يتعدى إليه بالباب على تضمينه معنى : عوضه .
وجعل جزاؤهم ما كانوا يعملون على معنى التشبيه البليغ ، أي مثل ما كانوا يعملون ، وهذه المماثلة كناية عن المعادلة فيما يجاوزونه بمساواة الجزاء للأعمال التي جوزوا عليها حتى كأنه نفسها كقوله تعالى جزاء وفاقا .
واعلم أن كونه مماثلا في المقدار أمر لا يعلمه إلا مقدر الحقائق والنيات ، وأما كونه وفاقا في النوع فلأن وضع الأغلال في الأعناق منع من حرية التصرف في أنفسهم لأصنامهم كما قال تعالى أتعبدون ما تنحتون ، وما تقبلوه من استعباد زعمائهم وكبرائهم إياهم قال تعالى وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا .
ومن غرر المسائل أن الشيخ لما كان عرض عليه في درس التفسير عند قوله تعالى ابن عرفة إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل فسأله بعض الحاضرين : هل يستقيم أن نأخذ من هذه الآية ما يؤيد فعل الأمراء أصلحهم الله من الإتيان بالمحاربين ونحوهم مغلولين من أعناقهم مع قول مالك رحمه الله بجواز القياس في العقوبات على فعل الله تعالى " في حد الفاحشة " فأجابه الشيخ بأن لا دلالة فيها لأن مالكا إنما أجاز القياس على فعل الله في الدنيا ، وهذا من تصرفات الله في الآخرة فلا بد لجوازه من دليل .